فهرست کتاب

طرق التخفيف من سفك دماء المناسك بمنى

طرق التخفيف من سفك دماء المناسك بمنى

إن كثيرًا من العقلاء والرؤساء والعلماء، قد كثر حديثهم فيما يشاهدونه ويستبشعونه من كثرة سفك دماء المناسك بمنى، بحيث تبقى ركامًا بعضها فوق بعض ولا يؤكل منها إلا القليل، ويرون أنها بهذه الصفة مال ضائع.
ولم يَحفظ مُضَاعَ المجدِ شيءٌ
من الأشياء كالمال المضاع
ويتمنى أكثر الناس صرف قيمة هذا الحيوان فيما هو أنفع من ذبحه من سائر أفعال الخير، وما سيقوم مقامه في الفريضة والفضيلة، مع العلم أن الحيوان في هذه السنين قد أصيب بالنقص والانقراض؛ من أجل توالي الجدب ومن أجل جفاء البادية في عمل الرعي لالتحاق أولادهم الرعاة بالوظائف الحكومية، ووظائف الشركات، ثم في إسراف الناس في ذبح الحيوان وخاصة الأغنام في سبيل الولائم والمآدب، وما لا سبب له إلا الترف الذي يحملهم على التوسع في الذبح بطرق متنوعة، وهذه الأفعال تهدد بانقراض الحيوان، أو بالغلاء الزائد في ثمنه.

وهذه القضية بهذه الصفة توجب على العلماء والحكام تحقيق النظر في تدارك هذا الخطر بإزالة الضرر وتخفيفه بطرق شرعية لا تصادم النصوص الجلية، والأمر الذي يوجبه الله في كتابه إيجابًا محتمًا لا مجال للجدل في دفعه ورفعه، لكن قد يوجد بطريق الشرع ما يخفف هذا الوضع؛ لأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولأن مدار الشريعة على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.

ولن يقع بين الناس مشكلة من مشكلات الدهر كهذه وأمثالها، إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83]، وأصل دماء المناسك التي تفعل بمنى، هي واجبة على المتمتع والقارن في قوله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمۡ يَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِي ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ [البقرة: 196] والله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات، إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات، إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

لكن هذه الحكمة في فعل هذا الشيء الواجب قد تخفى أحيانًا في وقت، وتظهر في أوقات، والدهر أبو العجب، وما يشعرني أن يأتي على الناس زمان يتمنون فيه رائحة اللحم ولا يجدونه، ثم إن ما يستبشعه الناس في هذا الزمان، من كون ذبائح الأغنام وسائر الحيوان تبقى مركومة بعضها فوق بعض، فإن له أسبابًا توجبه: أحدها فمن كثرة الحجاج الذين لا يحصى عددهم، والذي لا يوجد لمثله نظير في سائر الأزمان، وكل شخص يعتقد أن عليه نسكًا يتمّم به حجه، وإن لم يكن واجبًا عليه بحكم الشرع، كالحاج المفرد الذي ليس بقارن، ولا متمتع، فإنه لا يجب عليه دم نسك.

والأمر الثاني: حصر الذبح والذبائح في مكان مخصوص بمنى، ومحصور بالشبك، بحيث لا يسمح لأي شخص بأن يخرج منه ذبيحته حتى يذبحها ويسلخ عنها جلدها وفرثها ودمها. مع العلم أن مصرع الذبح مخاضته من الدم والفرث يشق الوقوف فيه، فضلا عن الجلوس والسلخ والتنظيف، يتطلب مدة لا تقل عن نصف ساعة أو قريب منها، لهذا صار الفضلاء وأكثر الناس يوكلون على ذبح نسكهم ولا يتمكنون من قبضها ولا الأكل منها إلا من قبيل الندور، فتبقى الذبائح بحالها، وأكثر الناس لا يتحصلون على اللحم في يوم العيد.

فلو وزعت هذه الأغنام المذبوحة والمركومة على الناس، لما وسع الخمسين من الحاج ذبيحة واحدة، لقلة الذبائح بالنسبة إلى كثرة الحاج. ثم إنه لا يقدح في صحتها بقاؤها بحالها وعدم الانتفاع بها، إذ هي من القرابين التي تقرّب لرب العالمين.

وكانت الأمم قبلنا متى قرّبوا القرابين من الأغنام أو البقر نزلت عليها نار من السماء فتحرقها، كما حكى الله سبحانه في كتابه عن ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ [آل عمران: 183] وقد أهدى النبي ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة - أي ناقة - نحر ثلاثًا وستين بيده، عدد عمره الشريف، وكن يزدلفن بين يديه - أي تبرك الناقة قبل الأخرى - ووكل عليًّا فنحر ما تبقى، وكما أنه لما بعث الهدي إلى الكعبة أمر سائقيها متى عطب شيء منها بأن ينحره ويتركه، ولا يأكل هو ورفقته شيئًا منه.