عليٌّ «بين التقصير والغلو»
الحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله الأمين محمد وعلى آله أجمعين وبعد:
اختلفت الأمة الإسلامية منذ قديم الدهر في شأن أمير المؤمنين علي÷فذهبت الخوارج والنواصب إلى أن علياً خرج عن الإسلام بقبول التحكيم في وقعة صفين وخلع نفسه عن الخلاقة من حيث لا يعلم ومع ذلك كله حارب المسلمين وقتل جماعة من الموحدين الذين لم يذعنوا بخلافته ولم يقروا بإمامته. وذهبت الإمامية إلي أن علياً منصوص من عند الله ورسوله بالإمامة الكبرى ومعصوم عن المعاصي والخطايا بل غالوا في حقه وقالوا إن لعليٍ وأولاده الولاية المطلقة التكوينية والسلطة الشاملة على الأرض والسماء. فهؤلاء في طرفي النقيض من البغض الشديد والحب المفرط وقد روى عن أمير المؤمنين علي÷أنه قال: «سيهلك فِيَّ صنفان، محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق وخير الناس فِيَّ حالاً النمط الأوسط فألزمره». [نهج البلاغة، خ ۱۲٧].
أما الخوارج والنواصب فهم محجوجون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله جحيث يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾[النساء:۳۵] وقد رضى رسول الله جبحكم سعد بن معاذسفي بيني قريظه بعد قبول تحكيمه. أما علي÷فإنه لم يقبل حكم الحكمين لأنه قال: اشترطت علي الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويمينا ما أمات القرآن. [تاريخ الطبري، ج ۵ ص ۶۶]. وقال: فإن هذين الرجلين اللَّذين ارتضينا حكمهما قد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدي من الله. تاريخ الطبري، ج ۵، ص ٧٧. فخرجا من شرط الحكمية فثبت أن الخوارج قد أخطئوا في تكفير علي÷ والخروج عليه ولعمري إنهم عصوا الرسول الله صلما وصى لعلي÷بالمودة وقال: «اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه». في رواية الفريقان [ولأبي جعفر الطبري رحمه الله كتاب ضخم في إسناد هذا الحديث].
>وأما الإمامية فإنهم أيضاً محجوجون بكتاب الله تعالى في قولهم إن لعلي وأولاده ولاية مطلقة نافذة في الأرض والسماء، فإن كتاب الله يجهر بخلاف ذلك حيث يقول: ﴿أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤﴾[الأعراف:۵۴] وقال: ﴿قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٥٠﴾[العنكبوت:۵۰] وقال: ﴿قُلۡ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ﴾[الأنعام:۵٧] وقال: ﴿قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۗ﴾[الأنعام:۵۸] وقال: ﴿لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ﴾[آل عمران:۱۲۸] وقال: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾[الغاشیة:۲۱و۲۲] وأمثال هذه الآيات فإذا كان هكذا شأن رسول الله جحيث أنه ليس له من الأمر شيء وليست الآيات في قبضه وقدرته وليس له على الناس سيطرة فكيف بعلي÷وأولاده؟. وهم في شأن دون شأن النبي ج. وأما قولهم أن علياً ÷وأولاده، معصومون عن الزلل والخطايا فهذا أيضاً غلو وإطراء وقول بلاحجة لأن رسول الله جمع رفيع شأنه وعظيم منزلته لم يكن معصوماً عن الخطأ إلا عند سماع الوحي وإبلاغه فكيف بالأئمة من أولاد علي÷؟! يقول الله تعالى: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ﴾[التوبة:۴۳] ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ﴾[المؤمن:۵۵] ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ﴾[التحریم:۱] ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ﴾[محمد:۱٩] ﴿لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾[الفتح:۲]، نعم إن علماء الإمامية ربما تأولوا الآيات وأخرجوها عن ظواهرها وتمسكوا بقول الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣﴾[الأحزاب:۳۳] ومعارضوهم يقولون: نزلت هذه الآية في شأن نساء النبي جوتذكير الضمير لرعاية التغليب كما في قوله العزيز: ﴿أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾[هود:٧۳] ولو فرضنا صحة القول بنزول الآية كما قالت الإمامية فلنا أن نقول: نزلت هذه الآية في بيان إرادة التشريعية للطهارة النفسانية دون إرادة التكوينية للعصمة الذاتية، على حد قوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ﴾[المائدة:۶] وقوله العزيز: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ﴾[النساء:۲٧] وكم من آية في كتاب الله تعالى ذكرت طهارة المؤمنين والمؤمنات كقوله عز وجل: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ﴾[التوبة: ۱۰۳] و: ﴿فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ ١٠٨﴾[التوبة:۱۰۸] و: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ٢٢٢﴾[البقرة:۲۲۲] و: ﴿وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ﴾[النور:۲۶] هل ترى بأن هؤلاء كلهم معصومون؟
أما مقام الإمامة الكبرى، فإن كان علياً ÷أحق الناس بهذا المقام من غيره [۱]لعلمه بأحكام الله تعالى وفضائله التي اعترف بها العدو والمحب إلا أنه لم يكن منصوصاً من الله سبحانه ورسوله جبالنص الجلي وإنما أرشد رسول الله صلى الله عليه وآله أمته بفضائله ومناقبه ولزوم محبته ونصرته فحسب. فكان يرى نفسه أولى وأحق بالإمامة – وهو ÷كذالك – ولذا اشتكى من قريش فقال: إنهم أجمعوا على منازعي حقا كنت أولى به من غيري كما رواه الرضي في (نهج البلاغة: خ ۲۱٧) ومع ذلك لم يصرح قط بأن الله عز وجل نصبه للخلافة وعليه أن يجلس على كرسيها على كل حال بل لما عزم القوم على بيعة عثمان قال: لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين (نهج البلاغة: خ ٧۴) وقال في شأن الخلافة: فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين (نهج البلاغة: خ ۱۶۲) وقال أيضاً: «تالله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها» (نهج البلاغة: خ ۲۰۵) فلما سارع الناس إلى بيعته بعد مقتل عثمان قال: «دعوني والتمسوا غيري» (نهج البلاغة: خ ٩۲) وقال: «أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً» (خ ٩۲) أفترى أن علياً – لو كان نصب بالنص الجلي للخلافة – نبذ عهد الله وترك ميثاقه وفوضه إلى من هو دونه لشدة سخائه؟! أم تقول أن علياً ÷ما كانت له رغبة في الخلافة التي جعلها الله خاصة له؟! حاشا لعلي÷ما علمناه هكذا مع كمال إيمانه وشدته في أمر الله عز وجل.
ثم ماذا تقول فيما قال علي÷في أمر الإمامة وشرط انعقادها حيث يقول: «ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار» (نهج البلاغة: ۱٧۳).
فلا بد لك أيها الأخ أن تذهب إلى القول بأن علياً وإن كان أحق الناس بالإمامة وليكن هذا الأمر لا يعارض الشورى ولا ينافي حكم أهل الحل والعقد وإلا فكيف تجمع بين النص الجلي وقول علي÷حيث قال: «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك الله رضي» (نهج البلاغة: ك ۶)؟ وما تقول في شرط صلح الحسن÷مع معاوية حيث صرح في كتابه: «... على أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين» (بحار الأنوار، ج ۴۴، ص ۶۵)؟
وإن توليت عن قولنا وتأولت صريح الكلام فما تقول في دخول علي÷في الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب؟ أليس هذا ينا في النص الجلي والتعيين الإلهي؟! وما تقول لبيعته أبا بكر حيث قال: فبايعت أبا بكر عند ذلك ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل (مستدرك نهج البلاغة لكاشف الغطاء: ص ۱۲۰). وما تقول لبيعته عمر بن الخطاب حيث قال: «فلما احتضر (أبو بكر) بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وبايعنا وناصحنا» (مستدرك نهج البلاغة: ص ۱۲۰).
أسأل الله عز اسمه أن يوفقنا لاتباع الحق وأن يجنبنا عن التقصير والغلو ﴿وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣﴾.
خادم الكتاب والسنة
۱۴۲۲ هـ . ق / ۱۳۸۰ هـ . ش .
[۱] هذا يخالف ما أجمع عليه أهل السنة و الجماعة إلى أن أحق الناس بالخلافة أبوبكرس.