image descriptions

عين على المدرسة الخالصية

20 رمضان 1432 هـ

الآباء المؤسسون

بقلم : خالد بن محمد البديوي

تعد أسرة الخالصي البغدادية أحد أبرز البيوت العربية التي لا زالت تقدم أدوراً دينية وسياسية بارزة في صفوف الشيعة منذ ما يقارب المائة عام، ومع أن بعض الكتاب يحاول أن يغيب أدوارها إلا أن القارئ الموضوعي لتاريخ الشيعة الحديث يصعب عليه أن يتجاوز بصمات المراجع الخالصيين في تقويم المشروع الشيعي وتصحيح الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامية منذ أزمان متطاولة والتي لم تنفك عن الحالة الطائفية ثقافياً وسياسياً.
والخالصيون ينحدرون من أسرة عراقية عريقة تسكن الكاظمة ببغداد ويعود نسبهم إلى حبيب بن مظاهر الأسدي -أحد أبرز الذين قتلوا مع الحسين رضي الله عنه في كربلاء-(1).
واللافت هو أن أعلام هذه الأسرة يحملون رؤية دينية تستحق الدراسة، وهو ما قمنا ببعضه في كتاب (أعلام التصحيح والاعتدال في صفوف الإمامية خلال القرن الأخير) ، وهنا نلخص ونستكمل بعضاً آخر حول مواقف وآراء المدرسة الخالصية. 

المرجع محمد مهدي الخالصي (الكبير)

يُعدّ المرجع محمد مهدي بن حسين الخالصي (1859م- 1925م) الأب المؤسس للمرجعية الخالصية، فقد كان من أبرز زعماء ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني في العراق ، وله الموقف المشهور عندما أفتى بحرمة الدخول في وظائف الدولة الجديدة المحتلة ، ومع أن بيرسي كوكس –المندوب السامي للاحتلال البريطاني- حاول أن يتواصل مع مهدي الخالصي وأن يلين جانبه إلا أن الخالصي رفض بشكل قاطع، ثم بعد تنصيب الملك فيصل على العراق ، بايعه مهدي الخالصي "ملكاً على العراق مستقلاً منقطعاً عن أي سلطة أجنبية بأي اسم كان" ثم لما تبيّن للخالصي تبعية الملك فيصل للبريطانيين أعلن إلغاء بيعته وأفتى بحرمة التصويت في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي عام 1922م، مما سبب إحجام كثير من الناس عن التصويت، وفي عام 1923 صدر أمر الحكومة باعتقاله وإبعاده إلى إيران، ليبدأ رحلة من النفي والتنقل الشاق ، ففي إيران تم اعتقاله مع أسرته و أرسل إلى البصرة ومنها إلى مكة ، ثم نقل على باخرة إلى بندر بوشهر في الخليج، ومن ثم انتقل إلى قم ثم إلى مدينة مشهد، ومن الواضح أنّ الاحتلال كان يريد كسر عناد الخالصي وتليين موقفه ليقبل بعد ذلك بأي شروط مقابل العودة، ولكن وبعد كل تلك المعاناة رفض محمد مهدي الخالصي شرط الحكومة العراقية للعودة المتمثل بالابتعاد عن السياسة ، فضل منفياً في إيران حتى مات في أبريل من عام 1925م (2).
لقد مات الخالصي الجد غير أنّ جدّية التغيير وصلابة الموقف من الاحتلال لم يمت في نفوس ذريته من بعده وهو ما سنقف معه الحلقات القادمة

  

***

(تبنى محمد الخالصي الأب منظومة من الأفكار الآراء التي رأى أنها تقود الشيعة والمسلمين إلى المسار الصحيح، وقد ابتدأ الخالصي مشروعه من داخل الشيعة عبر مسارين:  الأول يتمثل في محاولة تنقيح أقوال المذهب الإمامي الكلامية من الأمور الدخيلة في الدين)

------------

من أبرز أعلام المدرسة الخالصية المرجع الراحل محمد بن محمد مهدي الخالصي (1888م-1963م) فقد ولد الكاظمية ، ونال درجة الاجتهاد في الفقه الجعفري من قبل أبرز مراجع عصره، وقد قضى 27 عاماً من عمره في المنفي، فنفي من العراق إلى إيران بقرار من المندوب السامي للحكومة البريطانية عام 1922م ،  ثم بسبب تمسك الخالصي بآرائه وتوجهاته السياسية ؛ عوقب بالنفي المتكرر الشاق داخل إيران.
ففي عام 1925م نفي من طهران إلى خراسان حتى 1926م ومنها نفي إلى (خوف) والتي حبس فيها لاتهامه بقتل المفوض الأمريكي.


ثم في سنة 1927م سمح له بالرجوع إلى طهران، ثم في سنة 1931م حبس في طهران 3شهور, ثم سجن في قصر (قاجار), ثم نفي بعد ذلك إلى "تويسر كان" سنةً كاملةً , ثم إلى "نهاوند" سنتين.


وبعد ذلك سمح له بالعودة إلى الكاظمية ولم يمكث إلا يوم وليلة ثم قبض عليه وأعيد إلى إيران وحبس في قصر شيرين 20 يوماً, ثم أُخّذ إلى (كرمانشاه) ومنها إلى (نهاوند) حيث بقي فيهما سنةً كاملةً, ثم أطلق سراحه ونفي إلى (تويسر كان) وبقي فيها تحت مراقبة الشرطة حتى سنة1361هـ/1942 حيث نفي بعدها إلى كاشان وبقي تحت رقابة الشرطة الشديدة إلى سنة 1947م ،وبعدها نفي إلى مدينة (يزد) وبقي فيها إلى سنة 1947ثم سمح له بالعودة إلى العراق(3)، فعاد إليها بعد أن قضى 27 عاماً من عمره.


 ومع أن محمد الخالصي كان يعاني مرارة النفي إلا أن ذلك لم يثنيه أو يضعفه، بل على العكس  فقد أسس جمعية الدفاع عن بلاد ما بين النهرين لمناهضة الاحتلال البريطاني وقام بحملات مكثفة وإلقاء خطب لتحريض الناس ضد الانكليز ، ولعل البرقية التي أرسلها سفير بريطانيا في طهران (السير برسي لورين) إلى وزارة الخاجية تكشف عن جانب مما قام به الخالصي الأب ، حيث جاء في البرقية : "يعد الشيخ محمد الخالصي المحرض الرئيسي ضد الإنكليز في طهران"(4). كما أنه شارك وبقوة مع الكاشاني في تأسيس ثورة التأميم في إيران.


ويتميز محمد الخالصي بالشجاعة والوضوح، ففي رسالته التي وجهها إلى رئيس الحكومة الإيرانية أحمد قوام، قال فيها : (أخاطبك بهذه الكلمات لا لأنك تملك نفعاً يرجى أو ضراً يخشى, فما أعجزك عن الأمرين, بل لأنك أقرب إلي مكاناً من كل مسلم يحمل مثل هذه الصفة, وأقصد بخطابي هذا عظة أمثالك من رؤساء المسلمين كل على حسب إمارته ونزعته, وعلو نفسه.."(5).


وقد تبنى محمد الخالصي الأب منظومة من الأفكار الآراء التي رأى أنها تقود الشيعة والمسلمين إلى المسار الصحيح، وقد ابتدأ الخالصي مشروعه من داخل الشيعة عبر مسارين:  الأول يتمثل في محاولة تنقيح أقوال المذهب الإمامي الكلامية من الأمور الدخيلة في الدين، وهذا ما تناوله بقوة في مباحث كتابه (علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات الدخيلة في الدين) وفي كتاب (رسالة إلى أحمد قوام السلطنة رئيس الحكومة الإيرانية) ، فقد تحدث عن بشكل صريح عن (مظاهر) رأى أنها تخالف التوحيد ومنهج الأئمة عليهم السلام متهماً الرواة الكذابين والوعاظ - الجهلة الذين يصفهم محمد الخالصي بأنهم "أضر على الشيعة من جيش يزيد" بتحريف منهج الأئمة والافتراء عليهم لأطماع مادية.


والمسار الثاني الذي سلكه الخالصي الأب للإصلاح فهو محاولة كسر روح الطائفية عملياً ، عبر مبادرات سياسية وعلمية ، فقد شارك بقوة في تأسيس مؤتمر الوحدة في القاهرة ودخل في حلف ديني مع الشيخ عبد العزيز البدري-من أبرز علماء أهل السنة وقتها- ضد الشيوعيين، كما أن الخالصي على الصعيد السياسي دخل في حلف مع الرئيس العراقي عبد السلام عارف حيث كان يرى فيه مسؤلاً وطنياً يسعى لتحقيق الاستقلال للعراق وهي مجازفة كبيرة من عالم شيعي في وقت كانت المرجعية حبيسة الانتظار السلبي والاحجام عن المشاركة الساسية.
ومن الواضح أن محمد الخالصي رأى أن إصلاح الحالة العامة يجب أن تخضع لـ(جراحة) تستأصل الورم وليس إلى (مراهم) تسكن الألم، ولهذا جاءت مواقفه صريحة جداً ، فكان وصفه بعض الأعمال التي تمارس بأنها بدعاً شركيةً ، ووصفه بعض الأعمال المنتشرة بأنها لا تخلوا من "نزعة مجوسية" ، ومقارنته تبريرات رجال الدين لهذه الأعمال بأنها أقرب إلى تأويلات الوثنيين في وقولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ، إضافة إلى معارضته إضافة جملة (أشهد أن علياً ولي الله) في الأذان واعتبارها محدثة في الدين، وإقامته صلاة الجمعة التي كانت معطلة بين الشيعة من قبل المرجعية في كل العراق واغلب إيران، كل هذا وغيره شكل صدمةً  كبيراً لعامة الشيعة وإزعاجاً للمرجعية الشيعية العليا في النجف ، ولعل هذا أكبر أسباب عدم تناغمها مع الخالصي ووقوفها ممثلة بالمرجع محسن الحكيم بقوة دون تعاظم مرجعية الخالصي.


وأظن أن لو قدّر لمحمد لخالصي أن يصل إلى رأس المرجعية لربما تغير المسار اللاحق للشيعة والعراق بشكل أكثر إيجابيةً عبر قفزات إيجابية سريعة وليس خطوات بطيئة، لكنها وللأسف ليست الفرصة الأولى وليس الأخيرة التي تفوت على المسلمين دون الاستفادة منها بالشكل الصحيح ما دام الإسلاميون لا يعلمون إلى أين يسيرون.
ولنا حديث عن بقية عن الأبناء الخالصيين..إن شاء الله.

و ننتظر الحلقات القادمة

منقول من: جسور التواصل

---------

(1) علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات الدخيلة في الدين23(مقدمة  المترجم) . الأعلام للزركلي 7/86.
(2) الزركلي: خير الدين ، الأعلام ، ص115.  الطهراني: الذريعة 4/17. الزبيدي: حسن لطيف: موسوعة الأحزاب العراقية، ص381. من كتبه العناوين في الأصول (جزآن –مطبوع) ، والقواعد الفقهية (جزآن)
(3)  رسالة المجاهد الأكبر 99-110
(4) الوثيقة رقم 1 في رسالة المجاهد الأكبر ص23.
(5) رسالة المجاهد الاكبر الإمام محمد الخالصي 80.

المقالات الأخيرة

المزيد