العلماء بين بيان الدين وثائرة التعصب
خالد بن محمد البديوي
المشرف العام لموقع جسور التواصل
لاشك بأن الواجب على العلماء حفظ الدين، إذ هو على رأس الضروريات الخمس التي وضعت الشريعة لحفظها (الدين، النفس، العقل، النسل، المال)، ولكي يقوم العلماء بحفظ الدين ينبغي أن يرتكز خطابهم على (البيان)؛ بيان حقائق الدين معالمه ومحاسنه لكل الناس.
فقد سمّى الله تعالى نفسه بالمُبِين ((ويعلمون أنَّ اللهَ هو الحقُّ المُبِين))، فلكماله تعالى بيّن لعباده سبيل الرشاد بأحسن طرق، ولكمالِ كتابه وصفه بأنّه ((نور وكتاب مبين))، وقد رفع الباري قدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين أرسله ((ليبين للناس ما نزل إليهم)).
وخطاب البيان وحديث المُبيّنون يرتكز في مضمونه على الآراء والمقالات والبراهين والأدلة بأنواعها، فهو حوارات علمية راقية تثري العقول وتنشر الهدى.
وبتتبع يسير نجد أن أحاديث القرآن حول الحق والباطل عامتها حديث في عالم الأفكار والآراء، فيبين القرآن طريق الهداية وأسبابها وفضائلها في الدنيا الآخرة، ويبين الضلال وطرقه وأسبابه ومصير أصحابه في الدنيا والآخر، دون أن يشغل السامعين بأسماء المخالفين لطريق الرشاد إلا نادراً، وربما كانت هذه الأسماء من المتفق على بغضها عند السامعين (الشيطان، فرعون، هامان..)، كما أنه قد يسمي مخالفاً لحكمة كتسمية القرآن لأبي لهب مع ترك تسمية أبي جهل فرعون هذه الأمة وترك تسمية الآخرين من صناديد مشركي مكة أو مدعيّ البنوة في ذلك العهد، كما لم يسم القرآن رأس النفاق عبد الله بن سلول فضلا عن من هو دونه مع علمنا بأن كثير من الآيات نزلت في التعليق على أحداث معلومة.
أمّا اليوم فيُعد الاهتمام بإشهار الطعن في أسماء المخالفين "قوة في الدين" لدى بعضنا، كما يُعد ترك ذلك "ضعف في الديانة"، والحقيقة أن أسلوب القرآن فيه القوة العلمية الراسخة لأن القوة في عالم حوار العقائد والمقالات تكمن في امتلاك الحجج والبينات، ويزيدها قوة أسلوب العرض الذي يبتعد عن التهويشات والهبوط إلى عالم العصبيّات وكل ما يثيرها مثل الطعن في الآله المعبودة أو الشخصيات المتبوعة المعظمة بين أتباعها، وفي ترك القرآن لذلك حكمة ظاهرة إذ قد يمتنع بعض السامعين من الانتفاع بالبينات بسبب ذلك فوجب أن لا تكون الموانع من صنع أهل البيان.
إن القرآن يعلمنا أن نقيم الحق بقوة البيان بدلائله وبراهينه، ويعلمنا أن أهل البيان يشيدون مجتمعات راقية فكرياً تقوم على تعزيز القناعات المبنية على التفكر والتأمل، وفي مجتمعهم تجد الفكرةَ تجادل الفكرةَ، وتجد البرهان يغلب الظن، وفي كل الأحوال لا يقبلوا العلماء المبينون النزول بمجتمعاتهم عن هذا المستوى الفكري، ولا يُسفّون بالحق مهما استفزهم الآخرون، وهذه الطريقة هي الأحرى بحفظ الدين وإفساح المجال للحوار دون فتن، أما المتعصبون لأهوائهم الذين تنتهي حججهم عند ((إنا وجدنا آبائنا على أمة)) فإن العادة تثبت بأنهم لا يستطيعون العيش في عالم الأفكار والبراهين التي قد تنتهي بهم إلى التخلي عن بعض الآراء الموروثة فليس أمامهم إلا النزول إلى مراتب الوجدان.
وقد تساءل بعض الفضلاء: لماذا ضُعف أثر المعتدلين بين أتباع الفرق في الأمة الإسلامية؟ والواقع يجيب بأنّ عوام الفرق لازالوا يتعرضون لجريمة كبرى تستهدف إبقائهم في عالم التعصب حتى لا يصعدوا إلى عالم التفكير، ويشارك في هذه الجريمة فئام من أصحاب الباطل وأصحاب الحق بأساليب تعزز الحمية الجاهلية للمقولات الدينية ورموزها، والنتيجة: إيجاد المناخات الفكرية التي نزل القرآن وجميع الكتب السماوية لينقذوا البشر منها، وليرفعوهم للعيش في عالم التوحيد الذي يسموا بالعقل وينميه، بينما يسعى خصوم الرسل دوماً إلى تثوير العصبيات لتُغلق العقول ثم يلتف الناس حول المتسلقين وأكثر المتطرفين في كل ملة وفرقه، والسبب الجامع لكل ذلك هو مخالفة منهج القرآن في البيان والإسفاف بالحق من خلال أساليب تعزز نزعة الهوى سواء قام بذلك صاحب حق أو باطل.
وقد نقل الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمه الله قوله: (أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهرا الحق في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعف الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت في بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها). ثم علق الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: (وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية، فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم) (الاعتصام 2/732).
فمتى سنعي أن قوة البيان تكمن في التزام طريقة القرآن "الاهتمام بجدل الأفكار وليس الطعن في الذوات"، وأن الحقائق تنتشر في أجواء السلم والطمأنينة الفكرية التي تتيح للأفراد التأمل والتدبر وأن الانحرافات إنما تنتشر مع الإثارات والاضطرابات التي تشوش العقول.. ألا ترون أن الإسلام انتشر بعد صلح الحديبية عندما أمن الناس، وأن الفتن في الأمة الإسلامية ظهر بمقتل عثمان رضي الله عنه وما تبع ذلك من قلاقل هيأت لظهور مقالات وفرق، وصار لكل فرقة أتباع ومتبوعين.
بعد هذا كله لنا أن نتساءل: أي نصر سيجنيه من يسعى لإسقاط شخص متبوع في فرقة لها عقائد يزيد عمرها على ألف عام؟