أصول دعوة الرسل
اتفق جميع الأنبياء والمرسلين على الدعوة إلى الأصول الجامعة[54]، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وكالأمر بعبادته وحده لاشريك له، واتباع صراطه وعدم اتباع السبل المخالفة، وتحريم الأجناس الأربعة وهي: الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، والإشراك بالله وعبادة الأوثان والأصنام. وتنزيهه عن الصاحبة والولد والشريك والنظير والمثيل، وأن يقال عليه غير الحق، وتحريم قتل الأولاد، وتحريم قتل النفس بغير حق، والنهي عن الربا وعن أكل مال اليتيم، والأمر بالوفاء بالعهود وبالكيل والميزان، وبر الوالدين، والعدل بين الناس، والصدق في القول والعمل، والنهى عن التبذير والكبر، وأكل أموال الناس بالباطل.
قال ابن القيم[55] رحمه الله: (الشرائع كلها في أصولها - وإن تباينت - متفقة، مركوز حسنها في العقول، ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة، بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71]، وكيف يجوّز ذو العقل أن ترد شريعة أحكم الحاكمين بضد ما وردت به) [56].
ولهذا كان دين الأنبياء واحداً كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٥١ وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ٥٢﴾ [المؤمنون: 51-52]، وقال عز من قائل: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
بل المقصود بالدين وصول العباد إلى ما خلقوا له من عبادة ربهم وحده لاشريك له[57]، فيشرع لهم من الحقوق ما يجب عليهم القيام بها، ويكفل لهم من الواجبات، ويمدهم بالوسائل التي تبلغهم هذه الغاية؛ ليتحقق لهم رضى الله، وسعادة الدارين وفق منهج إلهي لا يمزق العبد كل ممزق، ولا يصيب شخصيته بداء الفصام النكد الذي ينتهي به إلى التصادم بين فطرته وروحه والكون من حوله.
فجميع الرسل يدعون إلى الدين الإلهي الذي يقدم للبشرية الأساس العقدي الذي تؤمن به، والشريعة التي تسير عليها في حياتها، فلذا كانت التوراة عقيدة وشريعة، وكلف أهلها بالتحاكم إليها، قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ﴾ [المائدة: 44]، ثم جاء المسيح عليه السلام ومعه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، قال جل ثناؤه: ﴿وَقَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَ فِيهِ هُدٗى وَنُورٞ ﴾ [المائدة: 46]، ثم جاء محمدﷺ بالشريعة الخاتمة والملة الكاملة، مهمينة على ما قبلها من الشرائع، ومصدقاً لما بين يديه من الكتب قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِۖ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّ﴾ [المائدة: 48]، وبين سبحانه وتعالى أن محمداً ﷺ والمؤمنين معه آمنوا به كما آمن به من سبقهم من الأنبياء والمرسلين فقال جل ثناؤه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ٢٨٥﴾ [البقرة: 285].
[54] وردت الإشارة إلى هذه الأصول الجامعة في سورة البقرة، الآيات 285،286، وفي سورة الأنعام، الآيات 151،153،، وفي سورة الأعراف، الآية 33. وفي سورة الإسراء، الآيات 23،37. [55] محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، ولد عام واحد وتسعين وستمائة وتوفي عام واحد وخمسين وسبعمائة هجرية، من كبار علماء الإسلام، وله مصنفات عظيمة. [56] مفتاح دار السعادة، جـ2، ص 383، وانظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، جـ4، ص 322، ولوامع الأنوار للسفاريني، جـ2، ص263. [57] مجموع فتاوى ابن تيمية، جـ2، ص6.