[رَدُّ قَرَوِيٍّ على السيد المَحَلاَّتي]
الحمدُ لِـلَّهِ رَبِّ العالمين، وَصَلَّى اللهُ على مُحمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في هذه الأيام (ذي القعدة الحرام 1395 هـ.ق، الموافق لشهر آذر 1354 هـ.ش.)، استلمتُ من أحد الأصدقاء كتاباً بعنوان: «رَدٌّ على المناقشات بشأن خطبة الغدير ووجوب خمس أرباح المكاسب ومسألة الشفاعة. تأليف المحدِّث الخبير ثقة الإسلام الحاج الشيخ ذبيح الله محلاتي».
رغم أنني لم ألتقِ بالحاج الشيخ ذبيح الله المحلاتي سوى أني كنتُ قد رأيت كتباً له في بعض مكتبات بيع الكتب، والتقيت به أقل من ساعة على مائدة طعام، ودار بيننا في ذلك الوقت القصير حوارٌ حول موضوع «أولي الأمر»، فوقفتُ على مدى حظه من العلم من خلال هذا اللقاء القصير، ولكنني لم أكن أتصوّر أنه متعصِّبٌ ولجوجٌ وقليلُ البضاعة من العلم إلى هذا الحدّ الذي يجعله يؤلف كُتَيِّباً بذلك العنوان وباسم «المحدِّث الخبير»! لأن أقل ما يتوجَّب على من يُطلِق على نفسه لقب المحدِّث أن يكون ذا بضاعة علمية بصحة الحديث وسقمه وذا بصيرة بأحوال الرجال، عندئذ يمكنه أن يأخذ القلم ويدافع عن حديث أو يردّه وينقده.
كتب المؤلف المذكور (السيد المحلاتي) كتابه ذاك رداً على مقال العلامة السيد «أبو الفضل البرقعي» الذي نشره في مجلة «رنگين كمان» (مجلّة قوس قزح) ورَدَّ فيه خطبة الغدير المنسوبة إلى رسول الله ص.
اتَّبَع المؤلِّفُ (السيد المحلاتي) طريقة وضع السؤال على لسان العلامة البرقعي ثم الردّ عليه بعد كلمة: الجواب! ولكنه لا يخفى على المُطَّلعين وأولي الألباب، أن المؤلف بتأليف كتابه هذا لم يزد أهلَ العلم إلا معرفةً بتعصبه وقلة معرفته، كما سيتبين ذلك عن قريب إن شاءالله.
لقد أصبح موضوع «الغدير» منذ الأيام الأولى، أي بعد مضي أكثر من مائة عام على هجرة رسول الله ص، مُسْتَمْسَكاً سياسياً وعدائياً لمن كانوا معارضين للحكم والحكام في تلك الفترة من تاريخ الإسلام، وقد عمل أعداء الوحدة الإسلامية على تقوية هذا الموضوع، وعلى إثر ذلك خرجت تلك الواقعة التاريخية عن صورتها الحقيقية وأصبحت حربة بأيدي الساسة، وأخذت معنى ومنظوراً آخر. وجاء كل مغرض ومتعصِّب فأضاف إليها أشياء من عنده حتى وصلت إلى ما وصلت إليه!!
كانت واقعة الغدير واقعةً ذكر فيها نبيّ الإسلام الأكرم ص بضعة جمل في فضل مولى الموحِّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ أبرزها تلك الجملة التي ذكرها معظم مؤرخي ومحدِّثي الإسلام ورواها عدة أشخاص من أصحاب الرسول المختار الأجلاء وهي التي قال فيها رسول الله ص: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاَهُ»، وكما روى كثير من المحدِّثين أيضاً الجمل اللاحقة التي قال ص فيها: «اللهم وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ». وهذه الجملة الأخيرة أفضل قرينة على المعنى المقصود من كلمة (مولى) التي ذكر لها علماء اللغة أكثر من عشرين معنى.
لو تركنا الهوى والتحيّز جانباً وقرأنا بتجرّد وإنصاف تاريخ الإسلام والواقعة التي كانت الدافع وراء قصة الغدير، لتبيّن لنا بوضوح أن تلك المسألة كانت صحيحة في موضعها ولا ينكرها أي مسلم بل أي إنسان ذي وجدان، وهو أنه في سنة حجة الوداع التي كان النبي ص قد أرسل فيها علي بن أبي طالب إلى اليمن والقبائل المحيطة هناك بمهمّة جباية الزكاة والصدقات، وبعد أن قام عليّ بالمهمة المطلوبة وَجَمَعَ أموالَ الزكاة، أرسلَ إليه رسولُ الله ص يدعوه إلى الحضور لأداء مناسك الحج معه في مكة، فاضطر عليٌّ، كي يصل إلى مكة سريعًا، إلى أن يعهد بأموال الزكاة -التي كان أكثرها من الإبل والبقر والضأن وسائر المواشي- إلى أصحابه في ذلك السفر، وكان فيهم خالد بن الوليد وبُريدة الأسلمي، من كبار الشخصيات في ذلك السفر. وبعد الانتهاء من الحج، لما عاد عليٌّ إلى القافلة وهي كانت على مشارف مكة، رأى أنهم قد تصرّفوا ببعض أموال بيت المال فوبَّخهم، فَكَبُرَ عليهم ذلك إذ كانوا يرون أنفسهم شخصيات ذات شأن ومقام، فذهبوا إلى رسول الله ص وشكَوا علياً إليه، وقالوا في شأنه أمورًا ذكرتها كتب التاريخ، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالإساءة إلى علي والقدح به بين الناس، ولما مهّدوا بهذه الأقاويل أرضية البغض والعداوة لشخص هو حبيب الله وحبيب رسوله، رأى رسول الله ص أنه من الضروري، رداً على ما تعرّض له عليٌّ من ذمٍّ وقَدْحٍ من أمثال خالد وبُريدة أن يحذّر أصحابه من معاداة علي قبل أن يصلوا إلى المدينة وذلك في منطقة غدير خم وأن يدعوهم إلى موالاته ومحبته ويرغّبهم بها.
إن موضوع غدير خم وما جاء فيه من خطب أيًّا كانت، لا علاقة له بموضوع الخلافة والنص على عليٍّ، حتى يأتي من يفسّر تلك الخطبة على أنها كانت تعيينًا وتنصيبًا لخليفة رسول الله ووليّ عهده، لأن تعيين الخليفة وتنصيبه طبقاً لنصوص القرآن وسنة الرسولص وسيرة المسلمين في صدر الإسلام إنما يتم من خلال الشورى، كما يدل عليه العقل والنقل والوجدان والتاريخ.