ردُّ قَرَوِيّ على السيد المَحَلَّاتِي

فهرس الكتاب

أما الدليل على أن القول بالإمامة المنصوصة مخالفٌ للوِجْدان:

أما الدليل على أن القول بالإمامة المنصوصة مخالفٌ للوِجْدان:

إن التاريخ الواضح لصحابة النبيِّ الكرام وإيمان أولئك الأجلَّاء الراسخ بالنبي ص، وآيات القرآن المباركة التي هي أفضل شاهدٍ على إيمانهم ووفائهم وتضحياتهم في سبيل الإسلام، إذْ جاءت عشرات الآيات في القرآن الكريم في مدح أولئك الرجال العظماء والثناء عليهم، كلُّ ما سبق دليلٌ قويٌّ وبرهانٌ ساطعٌ وَسَنَدٌ قاطعٌ على أن قصة الغدير لم تكن على ذلك النحو الذي يقولونه، إذ كيف يمكن التصديق بأن أولئك المسلمين الذين وضعوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأنصارهم وديارهم وأعراضهم وحيثياتهم وشخصياتهم على طبق من الإخلاص وقدموها فداء للإسلام، والذين وصلوا إلى ذلك المستوى العالي من الإيمان، إلى الحد الذي أثار إعجاب أهل العالَم وحيرتهم وحسرتهم، يُقْدِمون - دون أن يكون في ذلك أي فائدةٍ لهم - على إنكار خلافة عليٍّ التي تمَّ بيانها بتلك الصورة الواضحة في خطبة غدير خم المزعومة، هذا رغم أنه لم يكن قد مضى على وفاة نبيِّهم وعلى إلقائه خطبة الغدير الطويلة تلك سوى 70 يوماً؟!

بغض النظر عن أمر الله وإبلاغ الرسول، لو أن قَصَّاصًا ألقى خطبةً مثل هذه الخطبة في مقهى من المقاهي على الحاضرين ممن كان معظمهم مشغولین باحتساء الشاي أو تدخين الأفيون ومحادثة بعضهم الآخر، فهل من الممكن أن لا يتذكر أحد من أولئك الحاضرين تلك الخطبة بعد سبعين يوماً من إلقائها وينكرونها جميعًا؟!

فكيف بشأن خطبة الغدير التي حضرها أكثر من سبعين ألف شخص، وفي رِوَايةٍ أن عددهم كان مائة وثمانين ألف شخص، وألقيت فيهم خطبة مفصلة كل ذلك التفصيل، ثم بعد ذلك قام أولئك الحاضرون وبايعوا عليًّا بإمارة المؤمنين وفي إحدى الروايات أنهم توقفوا لأجل تلك البيعة ثلاثة أيام في الصحراء، وحتى النساء بايعنه أيضاً، ولكن بعد سبعين يوماً (أي من 18 ذي الحجة إلى 28 صفر) نسوا جميعاً تلك الحادثة رغم كل أهميتها أو تناسوها؟!

لم يُرْوَ مثل هذا التناسي أو تغيُّر القلوب في معجزة أي نبي من الأنبياء، وإذا كان له أساس من الواقع فيجب أن يُعَدَّ من المعجزات بل أكبر معجزة وآية لمنكري خلافة علي ÷-أياً كانوا- لأن هذه المعجزة لو كانت لأبي بكر وعمر وأنه اجتمع مائة ألف مخٍ ثم أصيبوا جميعاً بالنسيان أو كتمان الحق حتى صاحب الحق نفسه أي عليّ بن أبي طالب أصيب بالنسيان أيضًا فلم يذكر كلمة عن تلك الحادثة أصلاً بعد وفاة النبي ص ولم يشر إليها لا في السر ولا في العَلَن إلا أنه بعد 30 عامًا من وقوعها، استشهد بها في رحبة الكوفة وطلب من أشخاص مثل زيد بن أرقم وأنس بن مالك أن يشهدوا بها، ومع الأسف كتموها فدعا عليهم عليٌّ [5] فابتُليَا بالعمى والبرص؟!

لستُ أدري! هل يمكن لمن يدعي مثل هذا الادعاء أن يتصور إمكانية وقوع مثل هذا الأمر في عالم الرؤيا والخيال؟ كيف وبأي جرأة يستطيع أولئك الذين يدّعون ذلك الادعاء أن ينكروا القرآنَ الكريم الذي ذُكرت فيه عشرات الآيات في مدح صحابة رسول الله ص والثناء عليهم، وكيف يتجاهلون تضحيات أصحاب رسول الله ص وإيمانهم وإيثارهم وبذل أرواحهم التي قد حيرت العقول والتي يشهد لها التاريخ، ويصدِّقون خلاف ذلك؟ ولماذا؟ ألأجل أن يثبتوا بعد 1300 عام خلافة علي÷ المنصوص عليها، في حين أنه لم تبقَ اليوم خلافةٌ ولا عليٌّ ولا عَمَرُ، ومثل هذا النقاش والجدال والكتابة فيه وتبليغه ونشره لا يزيد إلا الفتنة والعداوة والفرقة والبغضاء والتشتت بين المسلمين ويسبب تسلَّط الأعداء عليهم. هل رأيتَ مجنونًا يعمل ذلك على نفسه؟ وهل لهذا العمل من نتيجة سوى خلْق البغضاء والعدواة والفرقة بين المسلمين وسيطرة الاستعمار عليهم؟! إضافة إلى كل ذلك، فإنكم بهذا الادعاء تُصَوِّرون أميرَ المؤمنين علياً بأنه كان -نعوذ بالله- رجلاً ضعيفًا غيرَ كُفْء للخلافة بل تتهمونه بالضلال وإضلال الأمة!! لأنه لو كانت إمامةُ ذلك الإمام أصلَ الدين فعلاً، وكانت مفروضةً مِنْ قِبَلِ الله وكان الناس قد بايعوه بها، فإن واجبَه أن يقوم -على أقل تقدير- بالوقوف في وسط الناس مرارًا وتكرارًا ويخاطبهم بكلامه البليغ الفصيح -الذي عرفناه عنه في نهج البلاغة- ويذَكّرهم بحقوقه، ويذكّرهم بشكل خاصّ بغدير خم، ويُتم عليهم الحجة، لا أن يذهب ويجلس في بيته ويسكت عن حقه ولا يتكلم عن ذلك أبدًا، فإنه لو فعل ذلك فسيكون -حسب ما تفضَّل به أحد أحفاده، وهو الحسن المثنى بن الحسن المجتبى- مِن أعظم الناس خطأً ويعد ذنبه من أكبر الذنوب، فقد سُئِل الحسن بن الحسن المثنى هل كان هناك نصٌّ على خلافة أمير المؤمنين علي ÷ في قصة الغدير فأجاب قائلاً: «لَوْ كَانَ النَّبِيُّ ص أَرَادَ خِلاَفَتَهُ لَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! هَذَا وليُّ أَمْرِيْ وَالْقَائِمُ عَلَيْكُمْ بَعْدِيْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيْعُوا».

(ثم أضاف):«أُقْسِمُ باللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَه لَو آثَر عَلِيًّا لِأَجْلِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَقْدِمْ عَلِيٌّ لَكَانَ أَعْظَمَ النِّاسِ خَطَأً»[6].

نعم، أي خطأٍ أكبرَ وأي ذنبٍ أعظمَ من أن يُسبِّب الإنسانُ ضلالَ الأُمَّة ولا يخبر الناسَ بأن رسول الله ص -تنفيذًا لأمر الله له- نصب عليًا في ذلك المقام الإلهي! والعجيب في الأمر أن الإمام علي÷ لم يقم بأدنى ادعاء في هذا المجال بل كما قال- حسبما رواه عنه قيس ابن عباده -: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ[7]، لَوْ عَهِدَ إليَّ رسولُ اللهِ عَهْداً لَجَالَدْتُّ عَلَيْهِ وَلَمْ أَتْرُكْ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ يَرْقَى فِيْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِنْبَرِهِ»[8].

هذا ما قاله أمير المؤمنين، أما هؤلاء الذين هم - كما يُقال- أكثر مَلَكِيَّةً مِنَ المَلِكِ(!)، فقد جاءوا بعد 1300 عام يبثون العداوة والبغضاء بين المسلمين بكتابة مثل هذه الأكاذيب ونشرها بين الناس فأصبحوا يتناغمون دون أن يشعروا مع رغبات أعداء الإسلام ولا يدرون ماذا يفعلون! وكل من أراد أن يوقظ المسلمين من سباتهم العميق حتى لا يكونوا أُلعوبةً بأيدي أعداء الإسلام، فإن حُرَّاس الأساطير والخرافات بنشرهم لهذه الترهات والأوهام، حالوا بينه وبين سعيه ذاك، بل أثاروا عامة الناس الجهلة ضدَّه وأشعلوا نار الفتن!

ذكر السيد المحلاتي في كتابه (ص 4) قول العلامة البرقعي على طريقة السؤال، فقال: إن خطبة غدير خم كلها موضوعة ومخالفة للقرآن الكريم. ثم شَرَعَ المحلاتي بالإجابة عن ذلك السؤال المفترض فقال: الجواب: تفضل أيها السيد (البرقعي) وبَيِّن لنا أيًّا من عبارات خطبة الغدير مخالفٌ للقرآن الكريم كي أجيب عن ذلك؟

ونقول في الرد على السيد المحلاتي: إن ما مرَّ ذكره في ما مضى من صفحات هذه الرسالة وإن كان مختصراً إلا أنه يكفي الشخص المنصف والمطلع كي يعلم أن موضوع خطبة الغدير بالكيفية التي تدعونها، ليس حديثًا موضوعًا ومخالِفاً للقرآن فحسب، بل مخالف للعقل والوجدان أيضًا، ولا يمكن لأي مسلم أن يصدقه فحسب، بل لا يمكن لأي إنسان أيضاً أن يصدقه!

سؤال: نحن لا نظن أن لهذه الخطبة سند.

جواب السيد المحلاتي: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف:5]. من هنا يتبين أن جناب السيد البرقعي لم يرَ المجلدين المتعلقين بقضية غدير خم من كتاب «عبقات الأنوار» تأليف آية الله مير حامد حسين (قُدِّسَ سِرُّهُ)، حيث أورد في المجلد الأول منه أسماء جميع رواة خطبة الغدير.

ردُّ الرجل القروي على كلام السيد المحلاتي: كان الأولى بكم أن تستعملوا هذه الآية بحق أنفسكم لأن ادِّعاءَكم يشبه ادعاء من نزلت الآية في ذمهم، إذ إن الآية التي جاءت قبلها هي قوله تعالى: ﴿وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا [الكهف: 4].

نعم، إن الذين يعتبرون علياً ÷ وأبناءَهُ الكرام «خلفاء الله في الأرض والسماوات» يعلمون أنهم يشابهون الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا، لأن الابن خليفةُ أبيه ووصيه وولي عهده، وتعالى اللهُ عُلُوَّاً كبيراً أن يمنح مقامه لأحد وأن يسمح لأحد أن يحل محله ليكون خليفته، فالذين أثبتوا لِـلَّهِ الولد استحقوا ذمَّ رب العالمين لهم واستحقُّوا قولَه تعالى في حقِّهم: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5]، فهذه الآية تنطبق على الذين أثبتوا لِـلَّهِ الخليفة والابن ولا تنطبق على العلامة البرقعي.

أما تقصير العلامة البرقعي فهو أنه لم يبيِّن للقرَّاء سند هذه الخطبة الغديرية ولو فعل ذلك لما احتاج إلى كتابة تلك المقالة في مجلة «رنگين كمان» (قوس قزح)، لأن سند هذه الخطبة مفتضح إلى درجة أن الإتيان بذلك السند والتعريف برجاله يغني عن الحاجة إلى الردّ على متن تلك الخطبة[9].

[5] بل الروايات الصحيحة خلاف ذلك، لأن زيد بن أرقمس كان ممن شهد لعليس بالرحبة على أنه سمع هذا الحديث من رسول الله ج، كما روى الإمام أحمد في مسنده: عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، قَالا: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحَبَةِ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ إِلا قَامَ، قَالَ: فَقَامَ مِنْ قِبَلِ سَعِيدٍ سِتَّةٌ، وَمِنْ قِبَلِ زَيْدٍ سِتَّةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: «أَلَيْسَ اللهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ؟» قَالُوا: بَلَى قَالَ: «اللهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». (مسند أحمد ج2، ص262، قال محقق المسند: صحيح لغيره). وممن رُوي عنه هذا الحديث بأسانيد صحيحة هو زيد بن أرقم. وأما أنس بن مالك س، فقد شهد لعليس أيضًا بذلك كما ورد في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (ج5، ص26)، عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ نَاشَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ: أَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُمْ حَوْلَ الْمِنْبَرِ، وَعَلِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَحَوْلَ الْمِنْبَرِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ، هَلْ سَمِعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»؟ فَقَامُوا كُلُّهُمْ فَقَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ...». (المُصحح) [6] يُنْظَر: عبد القادر بدران، تهذيب تاريخ دمشق، ط 2، بيروت، دار المسيرة 1399هـ/1979م، ج4 /ص 169. أو ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر، ج13/ص70 -71. [7] وبَرَأَ النسمةَ: أي خلَقَ ذاتِ الروح، وكثيراً ما كان يقولُها إذا اجتهد في يمينه. (النهاية، 5/49). (المترجم). [8] رواه المتقي الهندي، كنز العمال، ج5/ص656، حديث رقم 14152، وذكر في بيان مصدره: (أبو طالب العشاري في فضائل الصديق). ونقله القاضي نور الله الشوشتري في كتابه: الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة (ص 281، مطبعة النهضة/طهران، 1367 هـ. ق.) عن كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي الذي أورده بقوله: وأخرج الدارقطني وروى معناه من طرق كثيرة... فذكر الحديث. (المترجم) [9] هذا العبد الفقير بصرف النظر عن السند قمت بدراسة نقدية واضحة لمتن الحديث وأعتقد أن هذه الدراسة مهمة وقد ذكرت عيوب متن خطبة الغدير الطويلة في حاشية الكتاب (شاهراه اتحاد) (ص145 فما بعد) (البرقعي).