اليوم الآخر

فهرس الكتاب

فصـل القضـاء

إذا حُشـر الناس إلى ربهم يوم القيامة، وبَلغ العناء منهم مبلغاً عظيماً لشدة الهول، وصعوبة الموقف، يرغبون إلى ربهم في أن يحكم فيهم، ويفصل بينهم.

فإذا طال موقفهم، وعظم كربهم، ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليفصل بينهم.

1- قال الله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ٣٥ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ٣٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ٣٧ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ٣٨ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ٣٩[المرسلات: 35-39].

2- وعن أبي هريرةس أن رسول الله ج قال: «أَنا سَيِّدُ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَـجْـمَعُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُـم الدَّاعِيُ، وَيَنْفُذُهُـمُ البَصَـرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ، وَمَا لا يَـحْتَـمِلُونَ، فَيَـقُولُ بَـعْضُ النَّاسِ لِبَـعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُـمْ فِيْـهِ؟ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إلَى رَبِّكُمْ؟ فيقول بَـعْضُ النَّاسِ لِبَـعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَـقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوْحِهِ، وَأَمَـرَ الملائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلا تَرى إلى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟

فَيَـقُولُ آدَمُ: إنَّ رَبِّي غَضِبَ اليَومَ غَضَباً لَـمْ يَـغْضَبْ قَبْلَـهُ مِثْلَـهُ، وَلَنْ يَـغْضَبَ بَـعْدَهُ مِثْلَـهُ، وَإنَّهُ نَـهَاني عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُـهُ، نَفْسِـي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غَيْرِي» فيأتون نوحاً، فإبراهيم، فموسى، فعيسى، فيعتذر كل واحدٍ، وكلهم يقولون: «إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَومَ غَضَباً لَـمْ يَـغْضَبْ قَبْلَـه مِثْلَـه، وَلَنْ يَـغْضَبَ بَـعْدَه مِثْلَـه... نَفْسِـي نَفْسِي».

ثم يقول عيسى: «اذْهَبُوا إلَى غَيْري، اذْهَبُوا إلى مُـحَـمَّدٍ ج، فَيَأْتونِّـي فَيَـقُولُونَ: يَا مُـحَـمَّدُ أَنتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَـمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْـهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتي تَـحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِداً لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَـحُ اللهُ عَليَّ وَيُلْـهِـمُني مِنْ مَـحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْـهِ شَيْئاً لَـمْ يَفْتَـحْهُ لأَحَدٍ قَبْلي، ثُمَّ يُـقَالُ: يَا مُـحَـمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتي أُمَّتي.

فَيُـقَالُ: يَا مُـحَـمَّدُ أَدْخِلِ الجَنَّة مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْـهِ مِنَ البَابِ الأَيـمَنِ مِنْ أَبوَابِ الجَنَّةِ، وَهُـمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيْـمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُـحَـمَّـدٍ بِيَدِهِ إنّ مَـا بَيْنَ المِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى». متفق عليه [44].

ثم يفصل الله بين الناس، فتُعطى الكتب، وتُوضع الموازين، ويُـحاسب الناس، فآخِذٌ كتابه بيمينه إلى الجنة، وآخذ كتابه بشماله إلى النار.

1- قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ٧٥[الزمر: 75].

2- وعن أبي سَعِيد الخُدْرِيِّس قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ ا٬، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قال: «هَلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ إذَا كَانَتْ صَحْواً». قُلْنَا: لا. قال: «فَإنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إلا كَمَا تُضَارُّونَ في رُؤْيَتِـهِـمَا». ثُمَّ قال: «يُنَادِي مُنَادٍ: ليَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إلَى مَا كَانُوا يَـعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِـهِـمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِـهِـمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِـهَةٍ مَعَ آلِـهَتِـهِـمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَـعْبُدُ اللهَ، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ.

ثُمَّ يُؤْتَى بِـجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُـقَالُ لِلْيَـهُودِ: مَا كُنْــتُـمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ، فَيُـقَالُ: كَذَبْتُـمْ، لَـمْ يَكُنْ للهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُـقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ في جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُـقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْــتُـمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَـقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللهِ، فَيُـقَالُ: كَذَبْتُـمْ، لَـمْ يَكُنْ للهِ صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَـقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُـقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَـعْبُدُ اللهَ، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُـقَالُ لَـهُـمْ: مَا يَـحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ؟ فَيَـقُولُونَ: فَارَقْنَاهُـمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إلَيْـهِ اليَوْمَ، وَإنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: ليَلْـحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَـعْبُدُونَ، وَإنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا.

قال: فَيَأْتِيهِـمُ الجَبَّارُ في صُورَةٍ غَيْر صُورَتِـهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَـقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَـقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إلا الأنبِيَاءُ، فَيَـقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَـهُ آيةٌ تَعْرِفُونَـهُ؟ فَيَـقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَـهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ للهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْـمَا يَسْجُدَ فَيَـعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً، ثُمَّ يُؤْتَى بِالجَسْرِ فَيُـجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ ا٬، وَمَا الجَسْـرُ؟ قال: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْـهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاليبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَـهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَـكُونُ بِنَجْدٍ، يُـقَالُ لَـهَا: السَّعْدَانُ، المُؤْمِنُ عَلَيْـهَا كَالطَّرْفِ وَكَالبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَـخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَـمُرَّ آخِرُهُـمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُـمْ بِأشَدَّ لي مُنَاشَدَةً في الحَقِّ، قَدْ تَـبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْـجَبَّارِ.

وَإذَا رَأوْا أنَّهُـمْ قَدْ نَجَوْا في إخْوَانِـهِـمْ، يَـقُولُونَ: رَبَّنَا إخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَـعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَـقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُـمْ في قَلْبِـهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُـحَرِّمُ اللهُ صُوَرَهُـمْ عَلَى النَّارِ.

فَيَأْتُونَـهُـمْ وَبَـعْضُهُـمْ قَدْ غَابَ في النَّارِ إلَى قَدَمِهِ، وَإلَى أنصَافِ سَاقَيْـهِ، فَيُـخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.

ثُمَّ يَـعُودُونَ، فَيَـقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُـمْ في قَلْبِـهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُـخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَـعُودُونَ، فَيَـقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُـمْ في قَلْبِـهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُـخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».

قال أبو سَعِيدٍ: فَإنْ لَـمْ تُصَدِّقُوني فَاقْرَؤُوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا[النساء: 40].

«فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَيَـقُولُ الجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَـقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُـخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُـحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ في نَـهَرٍ بِأفْوَاهِ الجَنَّةِ يُـقَالُ لَـهُ: مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ في حَافَتَيْـهِ كَمَا تَنْبُتُ الحَبَّةُ في حَـمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُـمُوهَا إلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إلَى الشَّمْسِ مِنْـهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْـهَا إلَى الظِّـلِّ كَانَ أبْيَضَ.

فَيَـخْرُجُونَ كَأنَّهُـمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُـجْعَلُ في رِقَابِـهِـمُ الخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيَـقُولُ أهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْـمَنِ، أدْخَلَـهُـمُ الجَنَّةَ بِـغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُـقَالُ لَـهُـمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُـمْ وَمِثْلَـهُ مَعَهُ». متفق عليه [45].

[44] متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194)، واللفظ له. [45] متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7439)، واللفظ له، ومسلم برقم (183).