الحجاج القادمون من جهة البحر على الطائرات إلى جدة - هل يصح إحرامهم بالحج من جدة أو لا بد أن يكون قبلها؟
لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أُدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه.
لهذا وجب عليَّ أن أُبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري، إذ الحق فوق قول كل أحد، وفوق كل ذي علم عليم.
وإنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة - وتسمى الآن آبار علي - وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فُتِح هذان المصران (العراق ومصر) أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ حدَّ لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحدَّ لهم (أهل العراق) ذات عرق.
وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقَّتها رسول الله ﷺ لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه الناظم بقوله:
وتعيينُها من معجزات نبيِّنا
لِتعيينه من قبل فتح المعدد
لكون النبي ﷺ لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين.
وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مرّ عليها إلى يوم القيامة.
وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد كمصر والسودان والمغرب وسائر أفريقيا، وبلدان الترك والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين واليابان وروسيا، فحيث إنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ»[14] ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها.
وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت.
والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم؛ ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً.
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول اللهﷺ حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمُّون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.
والحكمة في وضع المواقيت موضعها؛ أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال وقلم الأظفار والطيب، ثم التخلي عن المخيط ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار أو رداء، ثم تعليم العوامِّ كيفية الدخول في النسك. وهذه الأعمال تتطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي ﷺ في حجة الوداع نزل بذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيّب.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: إعلام الموقعين، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة، والأحوال والنيّات، والعوايد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا يطاق؛ مما يُعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وإن نسب إليها. انتهى.
وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغيير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي ﷺ في بعض الصور، من ذلك: ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قَدِمْنا على رسول الله ﷺ ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: «يَا عَمْرُو، أصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» قلت: نعم يا رسول الله. ذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئًا؛ مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل: وجوب الغسل لواجد الماء.
ومثله ما رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله ﷺ رويجلاً ضعيفًا في أبياتهم زنا بامرأة، قال رسول الله ﷺ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ». فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ففعلوا.
فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله ﷺ في هذا، من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل؛ إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده، ونظرًا لضعف حاله جعلها رسول الله ﷺ جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ.
وله نظائر كثيرة. وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تُفتَى بهذا.
وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين. كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًّا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق.
وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولين بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم: إن من تتبع الرخص تزندق. قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.
وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله، تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعباده، صدقة منه عليهم ورحمة منه بهم، إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه: ﴿فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ﴾ [النساء: 101]، ولما قيل للنبي ﷺ: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمِنّا؟ قال رسول الله ﷺ: «هِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اللهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[15]. فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة. أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض والمسافر والشيخ الكبير، فقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185] ولما أرسل النبي ﷺ معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: «يَسِّرَا، وَلَا تُعَسِّرَا»[16]. وقال يومًا لأصحابه: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»[17]. فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين التي قال الله فيها: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ [الأعلى: 8].
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكمُ ضروبُ
ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء، ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًّا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ، الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله:
والناس أكثرهم بسجن اللفظ محـ
بوسون خوف معرّة السجّانِ
والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا
في قالب ويرده في ثانِ
[14] رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. [15] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عمر بن الخطاب. [16] متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. [17] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.