الصدقة على المضطرين أفضل من حج التطوع
إن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99]
فهذه العبادة التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بالاستقامة عليها واستدامة فعلها حتى يلقوا ربهم تنقسم إلى فرائض: وهي الواجبات، وإلى نوافل: وهي التطوّعات.
فالفرائض: بمثابة رأس المال؛ لأن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. والنوافل: بمثابة الربح، ولا ربح إذا لم يصح رأس المال. وحكمة النوافل: أنها يرقع بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها، كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه. وهي من أسباب محبة الرب للعبد، فتجعله من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣﴾ [يونس: 62-63].
كما روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[72].
فأفضل ما تقرّب به المتقرّبون إلى الله هو المحافظة على الفرائض الواجبة، ثم التزوّد بعدها بنوافل التطوّعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، ومنها ما هو متعدد النفع للغير. فمقصور النفع على فاعله مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوّعات.
أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو مثل: عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير، أنه أفضل من العمل المقصور على النفس.
لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوّعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه. من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أنها أفضل من حج التطوّع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين؛ لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لاسيما عند قرب العيد، وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة، والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله؛ من تفريج كربته وقضاء حاجته.
وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم وتنشط الأمم إلى الكرم. وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم - أي يطمئنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم - كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ﴾ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة.
ففي الدنيا: يدرك المتصدق المزكّي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39]، فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف.
وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.
إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، لكنهم ينشطون على النفقة في سبيل المآدب الواسعة، والولائم الإسرافية، وبعض الناس من رجال ونساء ينفقون أيضًا في سبيل حج التطوّع وهم قد حجوا، ثم حجوا، ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول والذي تركُه أفضل من فعله، أو العمل المحرم في نفسه.
وإنني أقول على سبيل النصيحة، رجاء أن تعيها أُذن واعية: إن هؤلاء الذين ينفقون هذه النفقات، إن الأفضل في حقهم هو صرف ما ينفقون إلى الفقراء والمضطرين، ومساعدة المنكوبين، وتأسيس الأعمال الخيرية، من بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء بيت لفقير أو رحم أو مساعدته على ذلك؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها وقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة، التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.
وإن كان أحدهم مدينًا، وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دَيْنه، ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدَّيْن، فإن الدَّيْن همّ بالليل وذل بالنهار، ولأن الدَّيْن واجب، والتطوّع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدّم المستحب على الواجب، وقد قال بعض العلماء بعدم جواز حج من عليه دَيْن حتى يقضيه، أو يسترضي غريمه.
إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها، فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة، وتحمّل الديون المرهقة؛ من تخليه عن العمل الذي هو كسبه ومعيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها، ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أُخرى. وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة. فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها وعدم المشقّة عليه، ثم الإكثار من عبادة ربها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لمّا حج بنسائه قال لهن: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»[73] أي الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها لا لحج ولا لغيره حتى توفّاها الله، منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.
إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوّع، هي أفضل من حج التطوّع، لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير، لاسيما في عشر ذي الحجة، التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة، فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته أفضل من تطوّعه بحجه.
ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أُضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحيّ، شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام. والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة، لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرّة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.
وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة. فلو جربتم لعرفتم، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾[سبأ:39] ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٦﴾ [التغابن: 16]
إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعمرة بمثابة سفر النزهة، كي يقال: حج فلان، وحجّت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد عزب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده.
وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوّعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورين للبلد الحرام، من سائر البلدان في المملكة العربية السعودية، وأهل الخليج، وما حولهم: إن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة، والصيام، والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوّعهم بحجهم وعمرتهم.
أضف إلى ذلك أن المجاورين للبلد الحرام والذين يترددون للحج عامًا بعد عام أنهم يتعرّضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم، بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في مثل هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر.
وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة، وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم فلا يتعرّضوا للبرد القارص ولا للحر القتّال؛ فإن البرد سريع دخوله بطيء خروجه، ويتزايد ضروه ويعظم خطره في أوله، كما قال عليّ رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق.
هذا: وإن الوقاية خير من العلاج، ونيّة المؤمن تبلغ مبلغ عمله، والحمد لله الذي جعل الحج فرض العمر مرّة واحدة ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء: 29].
* * *
[72] رواه البخارى عن أبي هريرة. [73] رواه أحمد عن أبي هريرة.