المبيت بمنى
وقد عدّ الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿ ۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ﴾ [البقرة:203]، فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشرِيِقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ، وَذِكرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[59] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد، فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج الذي يفعل فيها، من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة، أو عرفة أو محسر، لكونها ضرورة تقدّر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[60]، ولأن ما جاور الشيء يعطَى حكمه، أشبه المسجد الحرام حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة، ومثله الوقوف بعرفة؛ فقد قال النبيﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[61]. فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم، فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبد العزيز صاحب الشافعي، وهي مذهب أبي حنيفة، قاله في الإفصاح.
ثم إن رسول الله ﷺ وأصحابه في اليوم الثالث دفعوا إلى مكة، ونزل بالأبطح حتى باتوا بها. فقال بعض الناس: إن النزول بالأبطح سنة. فقالت عائشة: إنما نزل بالأبطح ليكون أسمح لخروجه. وفي آخر الليل دفع رسول الله ﷺ إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع، وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ هَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟» قالوا: نعم. قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ»[62] فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.
ثم قيل له: إن أُم سلمة شاكية لا تستطيع الطواف، فقال: «لِتَطُفْ وَهِيَ رَاكِبَةٌ»[63]، قالت: فطفتُ على بعير من وراء الناس، ورسول الله ﷺ يصلي بالناس صلاة الفجر، ويقرأ فيها بالطور، فما رأيت أحسن قراءة منه. ثم سافر رسول الله ﷺ إلى المدينة.
[59] رواه مسلم عن نبيشة الهذلي. [60] من حديث رواه البخاري ومسلم. [61] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث جابر. [62] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [63] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة.