اجتناب محظورات الإحرام
وسئل النبي ﷺ: ماذا يلبس المحرم؟ فقال: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»[19].
إن من سنة الإحرام: أن يتجرد الإنسان عن كل ما يعتاد لبسه، فلا يلبس القميص ولا العمائم ولا القلنسوة ولا السراويلات ولا الخفاف، وهي: الزرابيل، بل يتجرد عن كل مخيط. فيحرم في إزار ورداء يشبه أكفان الموتى، بحيث يتساوى في هيئة الإحرام الشريف والوضيع، والغني والفقير، والملك والمملوك، والوزير والصعلوك، كما يتساوون في الصلاة وفي الطواف وفي سائر العبادات. ومن بطَّأَ به عمله لم يسرع به نسبه.
ومتى كان الإنسان يشتكي رأسه لعِلة يجدها في نفسه إذا كشف رأسه، واحتاج لستر رأسه، فإنه يجوز أن يستر رأسه، ويفدي ما يجزئ في الأضحية، أو يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، لقول النبي ﷺ لكعب بن عجرة: «لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال: «احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ» رواه البخاري[20]. ولا يبطل بذلك إحرامه ولا حجُّه، بل يكفيه عن حلق رأسه أو تقليم أظفاره أو لبس المخيط من القميص والسراويل أن يفديه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وكل هذا على التخيير، وحجه صحيح.
أما المرأة: فإن إحرامها في وجهها، فلا تلبس البرقع ولا النقاب، فتزيل عن وجهها النقاب الذي يستعمله نساء الأعراب، إلا عندما يراها أحد من الرجال، فإنها تسدل الخمار على وجهها. تقول عائشة: كانت إحدانا تكشف وجهها في إحرامها، فمتى رأينا الرجال سدلت إحدانا خمارها على وجهها[21]. فإن انتقبت المحرمة - أي لبست النقاب على وجهها - وجب عليها أن تفدي عنه بذبح ما يجزئ في الأضحية، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، ولا يجب عليها أن تستعمل العصابة على جبهتها لتمنع بها مس الخمار لوجهها، فهذا لم يثبت فعله عن نساء الصحابة، ولو فرض أن الخمار مس وجهها من أجل هبوب الهواء أو غير ذلك، فإن هذا لا يضرها، ولا يقدح في صحة حجها.
ثم إن رسول اللهﷺ سار في طريقه حتى أتى سَرِفًا، وهو بطرف مكة مما يلي طريق جدة فنزل به.
حكم الحيض وما يجب على من ابتليت به في سفر حجها
ثم دخل على عائشة وهي تبكي، قال: «مَا يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟» - أي حضت - فأشارت إليه، أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[22]. وفي رواية قال: «ارفضي حجك، واجعليها عمرة» - أي قولي: لبيك عمرة وحجًّا - وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ». فالحيض: خلقة وجبلة في المرأة، خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم، ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فاسد لا تترك له الصلاة، ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.
فالمرأة التي ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج، وتقول: لبيك عمرة وحجًّا، فتصير قارنة، ولا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار. لكن إذا استمر الحيض عليها، وخافت من خروج الرفقة من مكة قبل أن تطهر، وقبل أن ينقطع عنها الدم، ولا يمكنها التخلف عنهم، فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، مثل هذه المرأة: بأن تغتسل،وتستثفر، ثم تطوف وتسعى، وتفعل بقية حجها، ويكفيها ذلك، ويعتبر حجها صحيحًا؛ لأنها حالة ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [البقرة: 286]، ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16] أشبه عادم الطهورين، يصلي على حسب حاله، وكذا المرأة المبتلاة بجريان الدم بما يسمى: الاستحاضة. وكذلك الرجل المبتلى بسلس البول الدائم، فكل واحد من هؤلاء يصلي على حسب حاله، حتى ولو قطر الدم على الحصير، وكذلك طواف الحج، فإنه يطوف على حسب حاله؛ إذ الطهارة للصلاة آكدُ من الطهارة لطواف الحج. وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[23] وهذا هو الذي نعتقده، ونعتمد صحة الفتوى به.
وقد رخص الفقهاء للحائض والنفساء، متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة، وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:
وبوضوء جنب أو حائض
أو نفسا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبور
في مسجدٍ ذاك على المشهور
[19] أخرجه البخاري من حديث ابن عمر. [20] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. [21] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [23] من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.