آداب الطواف بالبيت
قال جابر: ثم سار رسول الله ﷺ حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، فَرَمَل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة - والرَّمَل هو: العدْوُ مع تقارب الخُطا - واضطبع بردائه، فجعله تحت إبطه الأيمن - وهذا الرمل والاضطباع إنما يشرعان في طواف القدوم من السفر فقط، وما عدا ذلك فإنه يطوف ماشيًا بسكينة ووقار - ثم قرأ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗىۖ﴾ [البقرة: 125] فصلى ركعتين، وشرب من ماء زمزم، ثم خرج إلى المسعى، فبدأ بالصفا وختم بالمروة، فعل ذلك سبعًا، يذكر الله فيهما ويسبح ويدعو.
فلما كان آخر سعيه بالمروة قال لأصحابه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً»[24] وفي هذا دليل على تحديد نحر نسك التمتع والقران بيوم العيد وأيام التشريق، وأنه لا يجوز قبل ذلك. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال رسول الله ﷺ: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[25]. فحل الناس كلهم، وقصروا من رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، ودارت مجامر الطيب بينهم، إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم، ولم يحلوا منه إلا يوم العيد، بعدما رموا جمارهم، ونحروا هديهم.
وفي اليوم الثامن أحرم الذين حلوا بالحج، وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، وفي اليوم التاسع توجهوا إلى عرفات، وصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر والعصر قصرًا وجمعًا حتى أهل مكة، فكانوا يقصرون معه الصلاة بنمرة ومزدلفة ومنى. وبعد الصلاة خطب بهم رسول الله ﷺ الخطبة العظيمة. ومما قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، فَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع رسول الله ﷺ إصبعه إلى السماء وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»[26] وفي رواية قال: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[27]، فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها.
[24] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [25. 1) أخرجه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه. [26] رواه مسلم في باب حجة النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله. [27] متفق عليه من حديث جرير.