التخفيف من ذبح النسك بمنى يتحقق بأمور شرعية
أحدها: الإحرام بالإفراد بالحج
فبما أن مدن المملكة العربية السعودية وما جاورها من بلدان الخليج، هم بالعادة أكثر الحجاج، لقربهم من مكة، وسهولة السفر للحج عليهم، فهم دائمًا يترددون إلى الحج، وبعضهم يحج كل عام، كأهل مكة ومن حولها من البلدان.
وكلهم يحجون متمتعين، بحيث يلزم كل واحد ذبح النسك، لقول الله سبحانه: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِۚ﴾ [البقرة: 196]، وأكثر العامة لا يعرفون الفرق بين الأنساك الثلاثة، ولا يعرفون إلا التمتع الذي داوموا على فعله.
لهذا ينبغي للعلماء وللدعاة المرشدين، بأن يأمروا هؤلاء بالحج مفردين لكون الإفراد بالحج، هو من الأنساك المشروعة المشهورة، وبعض العلماء يفضله على حج التمتع كمالك والشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب واختياره، وفعل بعض الصحابة، وقد حصل النزاع بين عمر بن الخطاب وابن عباس في هذه المسألة، فكان عمر يرى إفراد الحج، وتكون العمرة مستقلة عنه، لما روى البخاري ومسلم عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا من أهلّ بحج، فأما الذين أهلّوا بعمرة؛ فحلوا - تعني بعد طوافهم وسعيهم وتقصيرهم - وأما الذين أهلوا بالحج أو بالحج والعمرة؛ فلم يحلوا حتى كان يوم النحر.
وإن الإفراد بالحج فيه مصلحة خاصة لفاعله، ومصلحة عامة لجميع الناس.
فأما المسألة الخاصة: فإنه يسقط به دم النسك، إذ ليس على المفرد دم، ثم إنه يثاب على عمله بهذا النسك الذي هو بمثابة السنة المهجورة غير المشهورة، فيثاب على تنقله إلى فعل هذه السنة، ولا يأثم من دعا الناس إليها، أو ألزمهم بها؛ لأن فعلها من باب تنوّع العبادات الذي ينبغي أن يفعل هذه السَّنة مرة، وتلك مرة، ثم إنه يستفيد العلم بهذه السُّنّة، كما أن العلماء يستعينون على حفظ العلم بالعمل به، وأكثر الغرباء لا ينوون بإحرامهم إلا الحج، ولا يعرفون التمتع، ولا القران، لولا أن المطوفين يلقنونهم ذلك. وليس في الإهلال بهذا النسك ما يشق، ما عدا أنه يبقى على إحرامه حتى يرجع من عرفة ويرمي الجمرة، ثم يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الفرض، ويسعى إن لم يكن سعى طواف القدوم.
لكن أكثر الحجاج من أنحاء المملكة العربية السعودية وما جاورها من البلدان، إنما يقدمون مكة في اليوم الخامس والسادس والسابع وبعضهم لا يقدم إلا في اليوم التاسع، فيتوجه إلى عرفة، وبعد رجوعه منها ورميه للجمار يفيض إلى مكة، ويطوف طواف الفرض، ويسعى سبعًا، ثم يحلق رأسه أو يقصر. وبذلك يتم حجه، وليس عليه دم نسك. ومثل هؤلاء لا يشق عليهم استدامة إحرامهم، لقصر المدة.
أما المصلحة لجميع الناس: فإنهم يستفيدون توفير الحيوان عن التوسع في هلكته، وبذلك يخف ما يشاهده الناس من بشاعة.
وكنا نتمنى أن لو صدر الأمر من الحكومة - حرسها الله - بجعل الحجة بالنوبة والتوزيع؛ ليخف هذا الضغط على الناس، ثم إن المفرد للحج في إمكانه إدراك العمرة في أي وقت يريدها، حتى ولو بعد فراغه من أعمال الحج.
وبهذا يسقط عن الناس الشيء الكثير مما يتعلق بذبح النسك.
الأمر الثاني من مقتضيات تخفيف ذبح النسك بمنى: هو أن الحكومة السعودية - حرسها الله - تسافر إلى مكة في موسم الحج، وفي أشهر الحج، ومعها جميع أتباعها، وسائر المتعلقين بأعمالها، من كل الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والموظفين وسائر الأسرة المالكة، وأكثرهم قد حجوا خمسين حجة، وأربعين، واعتمروا مثل ذلك.
وغاية قصد الجميع، هو تنظيم أمر الحاج وحمايتهم ورعايتهم وترتيب ما يلزم بشأنهم، ثم ملاقاة العظماء من الغرباء، والتخاطب معهم بما يلزم من شأن الجميع، فهذا هو السبب الأعظم في سفرهم إلى مكة، وشهودهم لموسم الحج.
فكل هؤلاء ينبغي أن يؤمروا بدخول مكة بثيابهم بدون إحرام؛ لكونهم لم يقصدوا الحج أصلاً، وإنما دخلوا مكة للحاجة. ولا يلزم كل من دخل مكة لحاجته أن يحرم، وإنما شرع الإحرام في حق من أراد الحج أو العمرة.
ثم إنه لا مانع لهؤلاء عند خروج الناس إلى عرفات بأن يخرجوا معهم بثيابهم غير محرمين، ولا بأس بذلك، أو يقعدوا في بيوتهم حتى يرجع الحاج إليهم، وإن أرادوا أن يحرموا بالحج فعلوا، ويكون حكمهم كحكم حاضري المسجد الحرام، أي كأهل مكة، ولا يلزمهم ذبح نسك. أشبه المترددين إلى مكة، فكل هؤلاء يسقط عنهم دم النسك.
الأمر الثالث مما عسى أن يخفف من ذبح النسك بمنى:هو أن الحاج متى دخل مكة متمتعًا، أو قارنًا، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وحلق رأسه أو قصره، ثم حل من إحرامه ولبس ثيابه، ثم بدا له بعد ذلك أن يسافر إلى المدينة أو إلى جدة أو إلى الطائف، وفعلاً أنشأ السفر فيما تقصر فيه الصلاة إلى شيء من هذه البلدان، ثم رجع بمن معه إلى مكة، فإن هؤلاء يسقط عنهم دم المتعة والقران في ظاهر مذهب الحنابلة، قال ناظم المفردات:
مسافة القصـر لذي الأسفار
ما بينما الحج والاعتمار
به دم المتعة والقران
سقوطه فواضح البرهان
وعلّلوا هذا السقوط بأنه لم يبق على حالة إحرامه بالحج والعمرة في سفرة واحدة، وبعمل واحد، حيث أدخل عليها سفرة ثانية، فتغير الحكم من وجوب دم النسك إلى سقوطه. والصحيح عدم سقوط دم المتعة والقران بمثل هذا السفر لعدم ثبات ما يدل على سقوطه، ولكونه من جنس الترفه الذي أبيح للمتمتع فعله فيما بين حجه وعمرته، كما أبيح له الترفه بالجماع والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا هو الصحيح بمقتضى الدليل والبرهان وفاقًا للأئمة الثلاثة، والله أعلم.
الأمر الرابع: أن هذه الذبائح المركومة والمتروكة، بحيث لم يبق لأهلها رغبة فيها، فإنها مباحة لمن أخذها، أو أخذ شيئًا منها، أو باع شيئًا منها، كما لو عملوا التصنيع لجعلها في علب، ثم بيعها على الناس، لكونها من المال المتروك المباح لمن أخذه.
وسميت الأيام الثلاثة بعد العيد بأيام التشريق، لكون الناس يشرقون اللحم فيها - أي ينشرونه بالشمس - كما سمي أوسط أيام التشريق بيوم الرؤوس. وقد نهى رسول الله ﷺ في أول الإسلام عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، قيل: من أجل الدافّة؛ أي الفقراء من أهل اليمن، ثم إنه رخص بعد ذلك في ادخارها، فكان الصحابة يتزوّدون من هذه اللحوم إلى أهلهم بالمدينة، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.