(1) أحكام منسك حج بيت الله الحرام

فهرس الكتاب

هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟

هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟

والجواب: أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته يجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر. ويجب عليه أن يُحرم عندما يتوجه إلى مكة من موضع ما يحرم منه أهل المدينة، لكون المواقيت للبلدان هي لأهلها، ولمن مرّ عليها من غيرهم، فقول النبي ﷺ: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم». ثم قال: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة» متفق عليه من حديث ابن عباس.

وتعيينه المواقيت لأهل هذه البلدان قبل إسلام أهلها هي من معجزات نبوته ﷺ كما قال الناظم:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدّد
وقد قال النبي ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»[64].

وإنما استحب العلماء زيارة المدينة لأجل الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ لحصول المضاعفة بالصلاة فيه، ومشاهدة آثاره، لكنه يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ وقبر صاحبيه ويسلّم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» فإنه حديث مكذوب على رسول الله ﷺ بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي تعتادون مجيئه - وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، - أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها - وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[65].

وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها ويدعو، فنهاه. قال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[66]، فلا معنى لهذا الزحام عند القبر، ولا التمسّح بجدار الحجرة والشبابيك، فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله ﷺ، فالذي يصلي ويسلّم على رسول الله ﷺ في مشارق الأرض ومغاربها، والذي يصلي ويسلّم عليه عند حافة قبره، هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلّم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الله وكّل ملائكة كرامًا يبلغونه سلام أمته.

وقد أمرنا بأن نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعلّم الرسول أصحابه كيفية الصلاة عليه، فقال: «صَلَّوْا عَلَيَّ، وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[67] وهذه هي أفضل صيغة في صفة الصلاة على النبي ﷺ. وكما أمرنا بعد إجابتنا لنداء الصلاة بأن نقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»[68] وهذا كله حماية منه لجناب التوحيد، وسد لطرق الشرك؛ لأن الذي يُدعى له لا يُدعى من دون الله.

والصلاة على النبي ﷺ هي من أفضل الطاعات، وأجلّ القربات، ومن صلى عليه مرّة صلى الله عليه بها عشرًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦ [الأحزاب: 56].

والنبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[69] وقال: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[70].

فمحبة الرسول الطبيعية لا تغني عن محبته الدينية. فالمحبة الصادقة توجب طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع لا بمجرد الهوى والبدع.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ [آل عمران: 31]، فمعناه بالضبط: إن كنتم تحبوني: فاتبعوني، وأطيعوا أمري، يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم.

فمن البدع: كون بعض الناس بالمدينة متى سلّموا من صلاة الفرض نفروا وقاموا إلى القبر يسلّمون على رسول الله ﷺ، وقد عدّه الإمام مالك بدعة؛ لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ»، وهذا السلام بهذه الصفة كافية، ولن يضيع عند الله، ولا عند نبيّه وحبيبه محمد ﷺ.

وأعظم من هذا دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولوا: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أُمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم
فهذا كله يُعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ [المائدة: 5]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢ [المائدة: 72] والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[71]، وكل من دعا الرسول واستغاث به فقد عبده؛ لأن الدعاء من العبادة.

وأخبر سبحانه بأنه لا أَضَلّ ممن يدعو من دون الله، فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6]، فسمّى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106] فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. والله أعلم.

[64] أخرجه مسلم عن ابن عباس. [65] أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن الزبير. [66] رواية أبي داود: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» وأخرجه الإمام أحمد. [67] رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن سعد والبغوي والباوردي والطبراني. [68] أخرجه البخاري عن جابر. [69] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس. [70] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. [71] أخرجه مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً. وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة بدون لفظ: «يُعبد».