الحكم في نزول مزدلفة والدفع منها
إن للمزدلفة ثلاثة أسماء هي: المزدلفة، وجَمْعٌ، والمشعر الحرام. وحدُّها من عرفة إلى قرن محسر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب والجبال فهو منها. ففي أي موضع منها وقف الحاج أجزأه؛ لقول النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[51].
والأصل في ذلك قوله سبحانه: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199].
والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل واجب في ظاهر مذهب الحنابلة والشافعية، وقال الإمام مالك: إن نزل بها ثم دفع فلا شيء عليه، وإن لم ينزل بها فعليه دم، وقال في الإفصاح: أجمعوا على أنه يجب البيتوتة بمزدلفة جزءًا من الليل في الجملة، إلا مالكًا، فإنه قال: هو سنة مؤكدة. وقال الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. قال: واختلفوا فيمن ترك المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل، هل يجب عليه دم أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه في تركها، مع كونها واجبة عنده. وقال مالك: يجب في تركها دم، مع كونها سنة عنده. وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدم، مع كونها واجبة عندهما.
فهذه الأقوال مع اختلافها خرجت من هؤلاء الأئمة مخرج الاجتهاد منهم، لكونهم لم يجدوا عن رسول الله ﷺ نصًّا صحيحًا صريحًا في تحديد الواجب من المبيت، وهل هو الليل كله أو نصفه أو جزء منه؟ فاجتهد كل واحد منهم في القول فيه على حسب الحالة والحاجة في زمنهم، من قلة الحاجّ وسعة المكان والطرق والقدرة على تصرف الإنسان بما يريد.
وإن الأمر الذي لا نزاع فيه، هو أن النبي ﷺ نزل بمزدلفة بعد انصرافه من عرفة؛ فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ثم رقد حتى طلع الفجر، فصلى بعدما تبين الفجر، ثم وقف بالمشعر الحرام، فذكر الله، وهلله، وأخذ يدعو حتى أسفر جدًّا، ثم دفع من مزدلفة، ومعه أصحابه حتى أتى جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه، وحلق رأسه، ولبس ثيابه، وبعدما أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بالبيت طواف الحج، فهذا أفضل ما يفعله الحاج، إذ إنه سنة رسول الله ﷺ الفعلية وسيرة خلفائه وأصحابه حتى في حالة هذا الزمان وشدة الزحام، فإنه يكون أوفق وأرفق به، إذ إنه بعد انصرافه من مزدلفة يجد فجوة خالية من شدة الزحام بين المتعجلين والمتأخرين، فهذا أفضل ما ننصح به، وندعو الناس إليه، لكنه لا يلزم أن يتيسر هذا التسهيل لكل أحد، فإن الحاج زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء، وفي كل السنين السابقة كانوا قليلين، فلا يحج من أهل البلدان البعيدة أحد، ولا يحج من أهل البلدان القريبة إلا النادر.
أما الآن، وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات، وسهلت المواصلات بوسائل المراكب الهوائية والبرية، ودُكَّت عقبات التعويق، وقُطع دابر قطّاع الطريق، وشمل الناس الأمنُ المستتب في أنحاء الحرم، وسائر السبل المفضية إليه، فمن أجله قدم الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون، وفي كل زمان يزيدون، فعظم الخطب واشتد الزحام، وصار الناس بعد انصرافهم من عرفة يسيرون مقسورين غير مختارين، يتحكم فيهم قائد السيارة، وشرطة نظام المرور، بحيث يمنعون السائق من الوقوف أو الانصراف عن طريقه، لكون أرض مزدلفة مملوءة بالناس والسيارات، وربما تمادى بهم سيرهم حتى يصلوا إلى المسجد الحرام، فيطوفون طواف الإفاضة وهم قد مروا بمزدلفة، لكنهم لم ينزلوا بها. ولأجله كثر السؤال عن حج هؤلاء، وهل هو صحيح أم لا؟
فالجواب: إننا على دين كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، ولو فكرنا فيه بإمعان ونظر، لوجدنا فيه الفرج عن هذا الحرج، وقد قيل: إن الحاجات هي أُم الاختراعات. لهذا يجب على العلماء الاجتهاد في تجديد النظر فيما يزيل عن أمتهم وقوع الخطر والضرر، والنبي ﷺ قد أرخص للظُّعُن[52] والضعفة بأن يدفعوا بالليل، ويرموا الجمرة بالليل، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة وحديث أسماء (بنتي أبي بكر) وحديث ابن عمر، وحديث ابن عباس.
وكما ثبت الدفع إلى مكة من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ أم سلمة ليلة المزدلفة، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. وكل الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن لم تثبت تحديد المبيت بجزء من الليل، ولا تقييده بنصفه، كما قيده الفقهاء بذلك. وترجم له البخاري في صحيحه، ما عدا أن أسماء بنت أبي بكر قالت للذي يُرحلها: هل غاب القمر؟ فقال: لا. فأخذت تصلي. ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال: نعم. قالت: فارتحلوا. قال: فارتحلنا، فمضت حتى رمت الجمرة وقالت: يا بنيّ: إن رسول الله ﷺ أذن للظُّعن. ومثله قاله ابن عمر، حين دفع من مزدلفة بأهله من الليل، وكلها لا تدل على تحديد ولا تقييد.
ونتيجة الجواب عن هذا السؤال: أن حج هؤلاء يعتبر صحيحًا بدون دم، إذ هو نظير ما فعلته أُم سلمة زوج النبي ﷺ كما في حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود وإسناده على شرط مسلم. وهو جنس ما فعله هؤلاء من دفعهم من مزدلفة إلى الجمرة، ثم إلى مكة لطواف الإفاضة بطريق القسر غير مختارين، وهو غاية وسعهم، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ولأن الحاج بعد انصرافه من عرفة يمر بمزدلفة في طريقه، وقد قال الفقهاء: إن حُكم من مرّ بعرفة حكمُ من وقف بها يوم تمام حجّه. ومثله من مرّ بمزدلفة ولم يقف بها، ثم إن بقية مناسك الحج التي تفعل بعد الوقوف بعرفة، مثل المبيت بمزدلفة، والرمي، وطواف الإفاضة، كلها من الأمور التي رفع رسول الله ﷺ فيها عن أُمته الحرج في تقديم شيء على شيء منها، فإنه ما سئل يوم العيد عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[53].
وبما أنها حصلت الرخصة من النبي ﷺ في الدفع بالليل للظُّعن والضعفة، بدون تحديد ولا قيد، فإن أكثر الناس في حالة هذا الزحام الشديد قد صاروا بمثابة الظعن والضعفة، بل أشد في حالة استعمال هذه الرخصة التي قُصد بها التسهيل، فيسِّروا ولا تعسِّروا، وقد قال الإمام مالك: إن المبيت بمزدلفة سنة مؤكدة. وقال الإمام الشافعي في أحد قوليه: إنه ليس بواجب. وقال الإمام أبو حنيفة: ليس عليه شيء في تركه، قاله في الإفصاح. وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة والشافعية المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة، قال في الإقناع وشرحه من كتب الحنابلة: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى ولا مزدلفة. وقيل: أهل الأعذار، كالمريض، ومن له مال يخاف ضياعه، حكمه حكمهم في ترك البيتوتة. قال في الكشاف: جزم به الموفق والشارح، وابن تميم، وهذا كله يرجع إلى كون الدين مبنيًّا على جلب المصالح، ودفع المضار.
[51] رواه مسلم عن جابر. [52] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. [53] رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس.