الاكتفاء بسعي واحد في حق القارن والمتمتع في الحج
فلما أكل رسول الله ﷺ من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بها طواف الحج، ولم يثبت عنه أنه سعى، بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعمرة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[55] إذ الدخول هو أن يُكتفَى بسعي أحدهما عن الآخر. وهذا هو ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة فلم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة، فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلَّم لا خلاف فيه، لكونه قارنًا، والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة لم يثبت تخلفهم عنه، لاستئناف سعي ثان لحجهم، وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يُكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.
ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع، كالقارن على حد سواء، كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك. فيعود باللائمة على نفسه، وعلى من أفتاه، لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة، مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد. والله أعلم.
ثم أتى رسول الله ﷺ زمزم وقال: «انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»[56]. فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم، وصلى بالناس الظهر بالمسجد الحرام قصرًا. ولمّا فرغ من صلاته قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[57].
وفي اليوم الثاني من أيام العيد جلس رسول الله ﷺ للناس، وجعلوا يسألونه. فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». حتى إذا زالت الشمس، وقام الناس معه يتبعونه أتى الجمرة الأولى، فرماها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم أسهل في الوادي، وأخذ يرفع يديه يدعو ويتضرع طويلاً والناس صفوف خلفه يدعون ويتضرعون، ثم أتى الجمرة الوسطى، ففعل مثل ذلك، ثم أتى جمرة العقبة، فرماها ولم يقف عندها، قيل: لضيق المكان. ثم انصرف بالناس، وصلى بهم صلاة الظهر بمسجد الخَيْف من منى، فصلى بهم ركعتين قصرًا من غير جمع.
[55] رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.