عودة الكاشاني وموقف البروجردي
ولما علم الناس بفوز الكاشاني، وأنه في طريق عودته من لبنان بالطائرة اجتمع الناس من مطار مهرآباد[54] إلى باب منزله، وقمنا بترتيبات ليكون الاستقبال مناسباً لمقامه، وبعد أن انتهت مراسم استقبال السيد الكاشاني رجعتُ إلى قم، وعندما دخلت المنزل وجدت مجموعة من الطلاب من جماعة فدائيي الإسلام مجتمعين وعليهم آثار الضرب والجروح، فسألتهم: مالكم؟! ماذا حدث؟ قالوا: اجتمعنا عصر أمس وصلينا المغرب جماعة في المدرسة الفيضية، فهجمت علينا مجموعة بالعِصِيّ، وقد علمنا أنهم فعلوا ذلك بأمر السيد آية الله البروجردي، وبقيادة (الشيخ علي لر)- وهو أحد طلاب لرستان- فدخلوا في صفوف الجماعة وبدءوا يضربون شباب فدائيي الإسلام، كما أمر السيد البروجردي أن تُقطع رواتب أي طالب من فدائيي الإسلام، وأن يُطردوا من غرف الطلاب في المدرسة الفيضية.
تعجبت كثيراً مما حدث، لأن فدائيي الإسلام كانوا مجموعة من الطلاب المتدينين الحريصين على إنكار المنكر، والذين يطالبون بالإصلاح، وكان الأجدر بالسيد البروجردي أن يوافقهم ويدعمهم، لا أن يرسل لهم من يضربهم أثناء الصلاة، ويسكت!
قال الطلاب: من لطف الله أنك لم تكن معنا وإلا لأصابك شيء من الأذى، قلت: ما ترون أن نفعل؟ قالوا: بما أنك من المقربين عند الكاشاني، فنرى أن تذهب إليه وتخبره.
رجعت إلى طهران، وأتيت السيد الكاشاني فإذا منزله مليء بالناس، فأخبرته بالقصة، فقال السيد الكاشاني: كما ترى حالياً لا يمكنني الذهاب إلى قم لأكلم السيّد البروجردي، ولكني سأرسل السيد الفلسفي ليكلم السيد البروجردي.
وفعلاً أمر الكاشاني الفلسفي أن يذهب إلى قم، وأن يقول للبروجردي: إن هؤلاء الطلاب من جماعة فدائيي الإسلام هم أولادكم، وهم أولى برعايتكم ومساعدتكم لا أن تضربوهم وتطردوهم. وذهب السيد الفلسفي إلى قم ليقابل السيد البروجردي، ورجعت إلى قم فبشرت الطلاب بمساعي الكاشاني.
في الحقيقة: إن سبب عدم ذهابي إلى البروجردي بنفسي يعود إلى ما رأيته منه حينما أُبعد الكاشاني إلى لبنان، حينما اجتمع مائة شخص واعتصموا في منزل البروجردي لكي يطالب الدولة بالعدول عن قرارها، ولكنهم لم يخرجوا بشيء، بل على العكس: قام أتباع السيد البروجردي بأخذهم إلى قرية وشنفه (من القری المجاورة) ولم يستطيعوا أن يقابلوه أو يقابلوا أحداً من مندوبيه، بل بمجرد أن دخل هؤلاء المنزل خرج البروجردي، وجاء موظف رسمي فبقي عند مدخل المنزل ليمنع أي أحد أن يأتيهم بطعام ونحوه.. لكي يملُّوا ثم يتفرقوا من تلقاء أنفسهم. وقتها علمتُ بحالهم فذهبت إلى خباز خلف منزل السيد البروجردي في زقاق عشقلي - في الطريق قبل أن يشقوا شارع چارمردان- فقلت للخباز: اذهب بكمية من الخبز من خلف البيت للموجودين في البيت وهم سيعطونك ثمنها، وإذا لم يعطوك قيمة الخبز فسوف أعطيك أنا، فاستمر الأمر كذلك، ولكن الموجودين لم يجدوا رداً ولم يستفيدوا من بقائهم فتفرقوا، وبمجرد أن تفرقوا رجع البروجردي إلى المنزل.
فكرت أن أقابل السيد البروجردي، وأن أسأله عن سبب امتناعه من الوقوف معهم، ولكن صرفت النظر عن ذلك؛ لأن السيد ثقيل السمع، والأشخاص المحيطون به سيسمعون كلامي فسيسعون لمنعي.
رأيت بعد ذلك أن أكتب رسالة للبروجردي ليقرأها، وأرسلتها عبر البريد المحلي فوصلت الرسالة، ولكن لما رأى المحيطون بالبروجردي توقيعي لم يوصلوها له، ثم كتبت رسالتين بعدها فلم يسمحوا للرسائل أن تصل، وكنت طلبت في الرسائل موعداً خاصاً.
من جهة أخرى: كنت في بعض الأحيان أصادف البروجردي في طريق ذهابي لدروس الحوزة فأسأله عن حاله ويسألني عن حالي، ولكنه لم يكن يذكر لي شيئاً بخصوص رسائلي، وهو ما أكدّ لي بأنها لم تصل إليه.
بعد ذلك كتبت رسالة جديدة إلى البروجردي، ولكن هذه المرة كتبت اسماً مستعاراً على ظهر الرسالة وهو: «حسين خان بوشهري» وفي الداخل كتبت اسمي الحقيقي وطلبت فيها موعداً معه، وقد وصلت الرسالة الثالثة، ولهذا لما لقيني في الطريق سألني: هل كتبت لي رسالة؟ قلت: نعم. قال: إذن سيكون موعدنا يوم الأربعاء الساعة الثامنة.
ذهبت في نفس الموعد إلى منزل البروجردي، فوجدت عشرة أو اثني عشر شخصاً في الغرفة التي أعدت للقاء. قال السيد البروجردي: تفضلوا ببيان ما تريدون قوله. فقلت: لا أستطيع أن أذكر شيئاً مما أريد إن كان سيبقى معي غيرك في الغرفة.
قال: هؤلاء منا وهم أصحابنا، فتفضل وقل ما لديك.
قلت: إذن لن أتكلم بشيء.
عندها قال السيد البروجردي لأصحابه: اخرجوا إلى الغرفة الأخرى، فقاموا وهم غير راضين، وأخذوا يسترقون السمع من الخارج.
وكما قلت: كان السيد البروجردي ضعيف السمع، فاضطررت للحديث معه بصوت مرتفع؛ لأني إن لم أفعل ذلك فسوف يتضجر أو يغضب، فتوكلت على الله وقلت: ينبغي لكم أن تدبروا طريقة لكي لا يفتح أصحابكم رسائل الناس قبلكم حتى تصل إليكم كل الرسائل.
قال: هم يوصلونها.
قلت: ليس كذلك؛ لأني أرسلت رسالتين ولم تصل إليكم، والرسالة الثالثة لما كتبت على ظهرها اسم: حسين خان بوشهري وصلت إليك.
قال: أنا كنت سأسألك لماذا كتبت هذا الاسم؟ قلت: للسبب الذي عرفت.
قلت: منذ ألف سنة وأنتم تلعنون بني أمية؛ لأنهم دعوا الإمام الحسين (ع) إلى الكوفة ثم منعوا عنه الماء، وأنتم بالأمس القريب تركتم مجموعة من المسلمين الذين لجؤوا إليكم لأمر ديني وللمطالبة بإحقاق الحق بخصوص مجتهد، وكانوا بمثابة الضيوف في داركم فلم تكرموهم، بل خرجتم للسفر ومنع أصحابكم عنهم الماء والخبز حتى اضطروا للتفرق، بينما كان الواجب أن تأخذوا مطالبهم، وتسعوا في تحقيقها مع المسؤولين، وإذا سمعتم أو رأيتم منهم أمراً غير مشروع، أو مطلباً ليس في وسعكم السعي في تحقيقه فإن الأولى أن تخبروهم بشكل صريح، لا أن تذهبوا وتتركوهم مع الحراس.
لما وصلت في الكلام مع السيد البروجردي إلى هذه النقطة دخل أصحابه مغضبين، وقالوا: إن لدى السيد أشغالاً كثيرة وأنت تضيع وقته.
في الحقيقة: توقعت أني لو أكملت الكلام معه فسيوسعوني إهانةً وضرباً؛ فاكتفيت وخرجت وقد يئست من السيد البروجردي. ولهذا لما رأيتهم ضربوا الطلاب من جماعة فدائيي الإسلام هذه المرّة لم أذهب إليه وسلكت مسلكاً آخر.
الواقع أن أصحاب السيد البروجردي سعوا بكل قوة لإعلاء صيته ومنزلته، واستطاعوا فعلاً -وبمساعدة أيادٍ خفية- أن يوصلوه إلى أن يصبح مرجعاً عاماً للشيعة، ولكنه لم يعد على الأمة بأي نفع.
وأما السيد آية الله الكاشاني، فكان على النقيض من البروجردي، حيث كان يجتهد في مساعدة الناس والوقوف معهم، وكان يتحمل في طريق إصلاح حال الرعية آنذاك الشدائد والمحن، وبفضل جهوده هو وأتباعه صدر في إيران قرار تأميم النفط الإيراني، وتم تخفيف الضرائب، وبجهوده وصل مصدق إلى رئاسة الوزراء، وبفضل إعلان آية الله الكاشاني الإضراب العام توقف الناس عن أعمالهم، وحصلت واقعة (الثلاثين من شهر تير[55]) حيث قام الناس بعزل قوام السلطنة الخبيث الذي أنزل الجيش فقتل في الشوارع كثيراً من الناس، وكثرت الفوضى، فاضطر الشاه لعزل أحمد قوام، ثم استلم مصدق زمام الأمور واضطر الشاه للهروب إلى إيطاليا، وبقي هناك أياماً اتصل فيها من هناك بالأمريكان، فرتبوا له الأمر لكي يعود إلى البلاد بثورة داخلية بشرط أن يكون عميلاً مخلصاً لأمريكا والمخابرات الأمریکية، وفي يوم (28 مرداد[56]) قام بعض الأراذل في الدولة برفع شعارات عليها «عاش الملك» وهجموا على إدارة الشرطة رقم (12)، ثم تحركوا فتجمعوا في مركز طهران، ثم توجهوا إلى مبنى رئاسة الوزراء للقبض على مصدق فأغاروا على منزله وقبضوا عليه.
محمد مصدق
[54] مهرآباد: تقع شرق طهران، وتبعد عنها قرابة 35 كيلومتر. (ملاحظة: توجد مناطق أخرى تسمى أيضاً مهر آباد في أصفهان وزنجان ومحافظة سيستان وبلوشستان وشيراز). [55] «تير» الشهر الرابع في السنة الإيرانية، ويقع بين 21 حزيران (يونيو) إلى 20 تموز(يوليو). (المُحَقِّق) [56] «مرداد» الشهر الخامس في السنة الإيرانية ويقع بين 21 تموز(يوليو) إلى 20 آب(أغسطس). (المُحَقِّق)