إلى السجن من جديد
الحقيقة: إن هذا المقال السابق لم يزد المشايخ إلا بغضاً وحسداً عليّ، والتفكير بزيادة الإرهاب والتهم، وبعد ذلك قاموا بسجني بدون أي جرم أو محاكمة، وهي المرة التي طال فيها سجني أكثر من المرات السابقة، وتعرضت فيها للقسوة والظلم بشكل أشد، والسبب أنني ألفت بعض الكتب منها: «كسر الصنم. أو: عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» وكتاب: «مخالفة مفاتيح الجنان لآيات القرآن» وكتاب: «دراسة علمية لأحاديث المهدي» وغيرها.. كما أن مما أزعجهم بعض الكتب التي ترجمتهما من العربية إلى الفارسية ومنها (المرشد إلى السنة في الرد على أهل البدعة[258])، وقد أبطلت في هذه الكتب البدع والخرافات الموجودة في المذهب، وهذا ما أغضب المدافعين عن البدع -خاصة المشايخ المتعصبين الخرافيين- مما دعاهم لأسري أوائل شهر مهر[259] من عام 1366 هـ. ش.[260] وكنت مريضاً، ووجهي مجروح، والماء يجري من عيني باستمرار من أثر إطلاق النار عليّ، وصلني خبر بأن المحكمة الخاصة برجال الدين أصدرت طلباً لسجن (إيفين)، باعتقالي؛ فطلبوني في سجن (إيفين) وبدایة ظننت أنهم طلبوني لیطرحوا بعض المسائل الفقهية والكلامية الخلافية للتحقيق والمناقشة، فحضرت لذلك، ولكن علمت أنهم لا يريدون أي نقاش، بل سجنوني فقط.
وبعد ساعة من التحقيق أُخذت إلى السجن في غرفة صغيرة طولها: (130سم) وعرضها متر واحد، وبابها من حديد، وأغلقوا عليّ الباب.
سبحان الله.. في الدول المتمدنة يختلف سجن النابغة والمناضل السياسي عن سجن القاتل أو السارق، وحتى في عهد الدولة السابقة (دولة الشاه) يضعون المجتهد في غرفة أو في منزل تحت المراقبة أو الإقامة الجبرية، كما حدث لي مع السيد الكاشاني حين سجنوني معه قبل (37) سنة في منزل على بُعد خمسة فراسخ من قزوين لمدّة ثلاثة أشهر، أمّا في العهد الذي تصدى فيه المراجع والشيوخ للحكم فقد أصبح سجن الفقيه لا يختلف عن سجن السارق أو القاتل!! وللقارئ أن يتعجب ويتساءل: كيف يرمى في السجن رجل كبير وهو في غاية المرض والضعف؟!
قلت لهم مراراً: لماذا سجنتموني من غير محاكمة؟
سجنوني مدة ستة أشهر وأنا مريض وضعيف، وكملت مدة أربعة عشر شهراً في سجن إيفین؛ منها ستة أشهر في غرفة انفرادية، وطوال الفترة لم أر فيها الشمس ولا القمر، وكنت أقول لهم: هاتوا لي أحداً من أهل العلم ليناقشني ويطرح عليّ الإشكالات التي لديكم على كتبي، فلم يجيبوا بشيء.
وقد تأذيت إلى حد أن الدمامل ملأت بدني.. فلما رأى رجال الحرس الثوري هذه الحالة نقلوني إلى قسم خاص برجال الدين، فكانت الغرفة أكبر، ولها ساحة أستطيع أن أمشي فيها بعض الوقت، واستطعت أن أعرض حالي على الطبيب، وعلى كل حال استمر سجني مدة 14 شهراً ظلماً وعدواناً.
كان السجن الخاص برجال الدين أسوأ حالاً من الغرفة الانفرادية من وجوه، فقد سجنوني مع بعض المشايخ الخرافيين المتعصبين الذين يغلب عليهم الجهل، والتهم التي سجن هؤلاء الخرافيون من أجلها إما الخيانة أو نحوها.. فأحدهم كان إمام جمعة واختلس عدة ملايين، وآخر كان قاضياً وأعدم أشخاصاً بدون إثباتات.. وآخر بسبب أخذه الرشوة.. وهكذا.
أمّا بالنسبة للطعام - في السجن- فكان مناسباً للشباب، أما أنا فلم يناسبني؛ لأنه لا أسنان لي وليس لي القوة على الهضم، فكنت لا آكل إلا القليل وبصعوبة بالغة، والخبز الذي يقدم سيئ، ولهذا كنت أطلب منهم أن يشتروا لي خبزاً غيره على نفقتي وأتناوله.
عندما كنت في الغرفة الانفرادية الصغيرة في الشهور الأولى كنت أطلب منهم أن أذهب إلى الدكتور، ولكن لم ألق أي اهتمام، حتى اشتد بي المرض فأخذوني وغطوا عيني بخرقة، ثم ذهبوا بي إلى الطبيب، وبعد فترة من الوقوف على القدمين كشف علي الطبيب فكتب وصفة طبية (دواء)، فأعادوني إلى غرفتي، وبعد ثلاثة أيام جاء أحد الجنود بالدواء ووضعه خلف باب الغرفة.. فقلت له: افتح الباب وأعطني الدواء؟! فقال: ليس لدي إذن بفتح الباب! فبقي الدواء في الكيس أمام الباب ثلاثة أيام إلى أن جاء جندي آخر أشفق علي فأعطاني الدواء.
نعم، لقد ألفت الكتب لخدمة الرعية وإيقاظهم وانتشالهم من الخرافات، وهم بدلاً من أن يقوموا بتقديرنا قاموا بظلمنا وعادونا أشد المعاداة..
حقاً: إنه عصر يعاقب فيه المخلص ويقدر فيه الخائن، وقد مضت الأيام في أسى كأشد ما يكون، إلى أن ذهبوا بي إلى القسم الخاص بالعلماء.
وجدت في هذا القسم مجموعة من الشيوخ الخرافيين، وكما قلت: كانوا من أشد من يعاديني ولو تمكنوا مني لقتلوني، وحاولوا أكثر من مرة أن يضربوني ولكن يمنعهم الآخرون.. وهؤلاء كانوا سبباً لضياع وقتي.. كان أحدهم اسمه (رستغار)، وكان سيئ الأدب، وكان من أهل مازندران، قليل العلم.. وهو متعصب وخرافي إلى أبعد الحدود، ولا يمكن مناقشته بالرفق والعقل؛ نظراً لسوء أدبه وتفحشه بألفاظ وقحة على من يخالفه، ولا يتورع عن الأذية أو الغيبة أو الاتهام.. وكان قد حُكم عليه بالسجن لسنوات بتهمة إقامة مجلس ترحم وعزاء على السيد كاظم شريعتمداري؛ فحكم عليه أحد القضاة الظلمة بالسجن لسنوات، وكان معه شيخ آخر مساعد له، وبوجوده شعرت بأن ضيق الحبس ازداد عليّ؛ لأنه يذكرك بالجهنميين الذين أخبر الله عنهم بقوله: ﴿تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٦٤﴾ [ص:64]، فقد كان يُلقي بعضهم على بعض أقذع الشتائم.. وكلمات بذيئة للغاية! ولكنهم في النهاية تجمعهم العداوة عليّ مع أن أحداً منهم لم يقرأ لي كتاباً، ولم يدرِ ما هي أقوالي وعقيدتي!
ومما زاد في ضيق هذا السجن (قسم رجال الدين) أن بعضهم كان يخبر على بعض ويشي عليه، فلا تستطيع أن تتكلم بحرية، وكما قلت: لم أكن مثل الشباب الذين يسهل عليهم أكل السجن؛ ولهذا عانيت في الأكل ومرضت طيلة مدة الحبس، وابتُليت بأمراض متعددة منها ألم في الظهر وآلام في الرجل، وانحباس البول، وأمراض في الجلد!
واشتد علي اّلمرض مرة فما استطعت أن أقف بالمرة، وأصبحت كأني في سكرات الموت؛ فوضعوني على السرير وحملوني إلى الطبيب، وبعد العناية لمدة ست ساعات تحسنت حالتي، ثم أعادوني إلى السجن وجاءوا لي بشيء من خبزهم وطعامهم الذي لم أستطع أن آكل منه.
هذه بعض أوضاعي وأحوالي في السجن، والواقع كان أسوأ مما وصفت. .فكم من مرة هددوني بالإعدام، ومنها أنهم أحضروني عند أسد الله لاجوردي، وأثناء وجودي معه أحسست كأن عينه تقطر دماً وهو يقول: ينبغي أن تقتل.. نحن سنقتلك!
فقلت: كلما أسرعت في فعل هذا فأنت محسن؛ لأنني سأرتاح وأنت سترتاح أيضاً، ثم قرأت له قول الله تعالى: ﴿ وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ﴾ [إبراهيم:45].
وفي أحد الأيام قال لي السیّد فلاحيان[261] ومعه شيخ آخر اسمه علي رازميني[262]: سنعدمك لأنك مرتد، وكنت أعرف أن هذين من أشد الجهال؛ لأنهم لا يعرفون الفرق بين الدين والمذهب، وقد قلت في جوابي لهم: اقتلوني بسرعة حتى أتخلص من شركم، ولكن اعلموا جيداً أن الله تعالى يقول: ﴿ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ﴾ [البقرة: 217] ولم يقل: من يرتدد منكم عن مذهبه! وإذا كان أحدهم شافعياً ثم صار مالكياً، أو كان جعفرياً ثم صار زيديّاً فهل تقولون بأنه مرتد؟!
والحاصل أن مجموعة من هذا المستوى المتدني في الفهم والعلم قد اشتدوا عليّ في السجن، وللأسف كانوا يدعون بأنهم من شيعة علي المرتضى ÷، الواقع العملي يثبت أنهم من شيعة ابن ملجم!!
في الشهور الأولى -وبالتحديد بعد ثلاثة أشهر ونصف- لم يسمحوا لأحد بزيارتي إلا خمس دقائق فقط من خلف الزجاج، زارني فيها ابني محمد حسين، فقلت لولدي حينها: إن موظفي السجن من الجهال الذين لا يعلمون شيئاً، فاذهب بسرعة إلى قم وقابل السيد المنتظري، واطلب منه أن يرسل علماء إلى طهران حتى يناقشوني لعلهم أن يفهموا أني لم أرتكب شيئاً يخالف الإسلام، وطلبت منه ضمناً أن يقول لولدي الآخر أن يذهب إلى الشيخ محيي الدين أنواري ليأتي إلي، وكان من تلاميذي ويعرفني معرفة جيدة، مع أنني كنت أعلم بأنه لو أتى إليّ ورأى وضعي فإنه لن يغير من وضع السجن شيئاً.
درست في مدينة قم أكثر من عشرين عاماً، وقد درس عندي من شيوخهم كثيرون، وبعضهم استلموا مناصب هامة بعد الثورة.. ولكنني لم أكن أرتجي منهم مناصرةً، ومن هؤلاء: الشيخ محمدي كيلاني[263] والشيخ اللاهوتي[264] والشيخ محمد رضا مهدوي كني[265] والشيخ عباس المحفوظي و السيد رضا البرقعي[266] وغيرهم. رضا البرقعي عباس محفوظي محمد رضا مهدوي كَنِي محمدي كيلاني
بعد مدة تقرر أن يأتي بعض المندوبين عن آية الله المنتظري ويطلعوا على أوضاع السجناء.. فماذا حدث؟!
قام موظفو السجن مع آخرين بنقلنا من مكاننا إلى سجن آخر أفضل ليخدعوا مندوبي المنتظري، وبعد رجوع المندوبين أعادونا إلى سجننا مرة أخرى.
وفي الجملة: صار وضعي في هذا السجن أحسن من الغرفة الانفرادية الأولى من بعض الجهات، حيث لم يرضوا أن يعطوني القرآن في السجن الانفرادي، بينما وافقوا على أن يعطونا حتى الكتب في هذا السجن، ولهذا تمكنت من الاطِّلاع مرة أخرى على كتاب الغدير، تأليف العلامة عبد الحسين الأميني التبريزي، وكنت قرأته قبل سنوات، وأستطيع القول بكل تجرّد وبدون أدنى تعصب بأن الذين قالوا بأنّ: عمل الأميني في هذا الكتاب ليس إلا تكثير الأسانيد على حديث الغدير] قد صدقوا.. فالكتاب إنما ينطلي خداعه على العوام والبسطاء وقليلي الاطلاع من غير المختصين، أما المطلعون فليس له عندهم كبير قيمة، وللأسف فإن بعض أهل الاختصاص مدحوا الكتاب ومجّدوه تعصباً وتغريراً بالعوام، وفي نظري أن أستاذنا السيد أبا الحسن الأصفهاني كان مصيباً حين استفتوه في طباعة الكتاب من أموال الوجوه الشرعية (سهم الخمس) فلم يوافق، وأجابهم قائلاً: إن صرف أموال سهم الإمام في طباعة كتاب شعر مديح لعله لا يقع موقع رضا الإمام.
وقد استند هذا الكتاب على مصادر غير موثقة، وأسانيد غير متصلة بصدر الإسلام، ولهذا لا قيمة له عند أهل التحقيق.
وللأسف فإنه سبق تفنيد أفكار المؤلف إلا أنه رجع إلى طرحها مرة أخرى، واعتقد أن أهل الفن من الشيعة يخفون في أنفسهم أن هذا الكتاب لم يقدم شيئاً، ولهذا فإن الذين يمدحون الكتاب ويدافعون عنه من المراجع الذين هم على سدّة الحكم في الجمهورية لم يأذنوا بطباعة كتب أخرى تدعو إلى الوحدة، وتنتشل الناس من الخرافة نحو كتاب المحقق الكبير الأستاذ حيدر علي قلمداران: (طريق الاتحاد أو دراسة نصوص الإمامة) وكتاب: (الباقيات الصالحات)[267] لأحد علماء الشيعة في شبه القارة الهندية، وهو محمد عبد الشكور اللكهنوي، أو كتاب: (التحفة الإثني عشرية) تأليف عبد العزيز بن شاه ولي الله أحمد الدهلوي، أو (مختصر راز دلبران) تأليف السيد عبد الرحمن السربازي كتبه لمؤسسة في قم، أو كتاب (المرشد للسنة والرد على أهل البدعة -مختصر المنتقى من منهاج الاعتدال لابن تيمية)[268] ترجمة العبد الفقير البرقعي، وأمثالها من الكتب المفيدة لأهل فارس.
بل إن المسؤولين لا يريدون أن يصل اسم أي من الكتب السابقة إلى مسامع الناس، ولو كانوا يريدون نفع الناس وإيصال الحق لهم لأذنوا للناس بأن يقرؤوا كتاب الغدير وغيره من الكتب المقابلة له؛ ليرى الناس ويحكموا بأنفسهم ويناقشوا العلماء حتى يعرفوا الحق من الباطل، وحتى تكون حالهم كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرۡ عِبَادِ ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ﴾ [الزمر: 17-18]، لكن المسؤولين لا هم يعملون بهذه الآية ولا يسمحون للآخرين أن يعملوا بها، بل يردون على أفكاري وأطروحاتي بالرصاص والسجن.
***
[258] اسمه بالفارسي: «رهنمود سنت در رد أهل بدعت»، وهو ترجمة لکتاب (المنتقى من منهاج السنة النبوية) اختصار الحافظ الذهبي. [259] شهر مهر هو الشهر السابع من أشهر السنة الإيرانية ويُوافق من 21 أيلول (سبتمبر) إلى 20 تشرين الأول (أكتوبر). (المُحَقِّق) [260] يُوافق أواخر شهر آب (أغسطس) من عام 1986 م. (المُحَقِّق) [261] فلاحيان: علي فلاحيان وُلد عام 1949م من أسرة متدينة؛ فاتخذ سلك التعليم الديني وأصبح من علماء الدين ووفقاً لرتب رجال الدين عند الشيعة فهو في مرتبة (حجة الإسلام والمسلمين)، كان له دور بارز بعد الثورة، فقد أسس كلية المعلومات الأمنية، وتولى منصب المدعي الخاص لعلماء الدين، ثم رئيس هيئة التحقيق الخاصة بالقوات المسلحة، ثم وزير الأمن (الإستخبارات و المباحث) خلال فترتي رئاسة رفسنجاني، وقام بتصفية العناصر المضادة للنظام في الخارج، وقد أدت إحدى عملياته إلى توتر العلاقات بين إيران وألمانيا. [262] علي رازميني: رئيس محكمة العدالة الإدارية في طهران وعضو مجلس خبراء القيادة. [263] جيلاني (گيلاني) رئيس مكتب مرشد الثورة في عهد خامنئي. [264] اللاهوتي: عينه الخميني في وقت سابق ممثلاً عنه ومشرفاً على حرس الثورة. [265] الكني: محمد رضا مهدوي كني عام 1349 هـ، من مؤسّسي جامعة الإمام الصادق، وهو رئيسها الحالي. [266] رضا بن محمد البرقعي، ولد عام 1948م، كان ممثلاً خاصاً للخميني حتى وفاته، قام بتأسيس وبناء مسجد الإمام الحسين الكبير في الإمارات بدبي، وهو رئيس اللجنة الثقافية لحزب الوفاق الإيراني. [267] الباقيات الصالحات: تفسير لبعض آيات القرآن من تأليف محمد عبد الشكور الفاروقي المجددي، طبع في بومباي عام 1386هـ. [268] اسمه بالفارسية: «رهنمود سنت در رد أهل بدعت».