إيقاف وتحقيق بتهم بدون أدلة
في شهر رمضان من عام 1403هـ ق. اتصلوا بي عبر بالهاتف وطلبوا مني الحضور إلى المحكمة المركزية (چهار راه قصر) فأخذتُ معي قميصاً وسراويلَ وملحفةً في قماش؛ فقد غلب على ظني أنهم سيسجنونني وأنني سأحتاج إلى هذه الملابس، وبعد أن وصلت إليهم فتشوني كأنني قاتل، ثم أدخلوني إلى غرفة المحكمة وبقيت خمس ساعات يقدمون إليّ أسئلة مكتوبة وأنا أجيب.
كان المحقق جالساً وأمامه ملفٌ كبيرٌ على الطاولة تبلغ أوراقه حدود الثمانمائة أو الألف ورقة، والمحقق ينظر إليه ثم يسأل، ومن جملة أسئلته التي أذكرها من حفظي:
س: لماذا تصلي صلاة الجمعة؟
ج: أنا أعتقد وجوب صلاة الجمعة، وأصلي صلاة الجمعة منذ ثلاثين سنة، ولكن منذ سنتين منعتني الجمهورية الإسلامية عن أداء صلاة الجمعة في منزلي بقوة السلاح، وحبستني مع مجموعة من المصلين في السجن، ومنذ ذلك الزمان عطلتها.
س: لماذا لا تحضر صلاة الجمعة التي تقيمها الحكومة؟
ج: لا أعتقد عدالة إمام الجمعة الرسمي.
س: لماذا لا تعتقد عدالته مع أن الإمام الخميني وثقه؟
ج: إن كان عدم الذهاب إلى صلاة الجمعة جرماً فلماذا لا يحضر الإمام الخميني نفسه إلى صلاة الجمعة؟! إضافة إلى ذلك: أنا إذا ذهبت مع جماعة المصلين لا آمن على نفسي من الخرافيين.
س: ما رأيكم في الإمام الخميني؟
ج: رأيي فيه هو نفس ما قاله عن نفسه في الإذاعة وطبع في الجرائد.
س: ماذا قال؟
ج: قال سنة (1403هـ) في ذكرى يوم البعثة: لا أحد يعلم معاني القرآن، ومن يدعي فهم القرآن فهو غارق في الجهالة، نعم.. أعتقد أنه لا يفهم القرآن بحسب قوله، ولكن أصحاب رسول الله وحتى الناس الأميون يفهمون القرآن.
س: لماذا تحرم التقليد؟
ج: لأن الله تعالى ورسوله حرماه، ولأن علماء الشيعة حرموه كالكليني والصدوق والحر العاملي، والشيخ يوسف البحراني، وصاحب تفسير الصافي، وآلاف آخرون من العلماء، لست أنا وحيداً في هذا الموضوع، بالإضافة إلى أنني مجتهد فلا بد أن يأتيني مجتهد حتى أثبت له أن الله تعالى قال في سورة الأحزاب آية (67) حكاية عن أهل جهنم: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧﴾ [الأحزاب:67] وقال الإمام الصادق: من أفتى الناس فقد ضل وأضل في الإسلام ليس لأحد أن يفتي.
س: لماذا ترفض سائر الفقهاء ولا تقبلهم؟
ج: لأن أمير المؤمنين ÷ رد سائر الفقهاء، كما هو في خطبته 18 « نهج البلاغة» ففعلت ذلك اقتداءً به، (ثم كتبت بعد ذلك): الفقهاء إذا كانوا يخترعون المذهب ويؤسسون البدعة فأنا لا أقبلهم ولا أقرّ بأنهم فقهاء.
س: لماذا كتبت في عهد الطاغوت رسالة للشاه الخائن؟
ج: كتبت رسالة وذكرت فيها المظالم التي طالتني من قبل السافاك والخرافيين، ولابد للمظلوم أن يستنصر على الظلم، ولم أطلب في رسائلي منصباً ولا مالاً، بل رد المظالم فقط.
س: أثنى الشاه في رسالته على كتابكم «العقل والدين»؟
ج: هذا الأمر لا ذنب لي فيه، أحيوا الشاه واطلبوا منه أن لا يثني عليّ مرة أخرى!
س: ما سبب عداوتكم للإمام الخميني؟
ج: أنا لا أبغضه، بدليل أنه لما أخذه الشاه وكان يريد إعدامه أو إبعاده اجتمع عدة من الروحانيين لأجل إنقاذه وكان منهم آية الله منتظري، والروحانيون الذين يحاولون اليوم التقرب من الإمام الخميني لم يكونوا حاضرين حينئذ خوفاً من السافاك، ولكني كنت حاضراً مع عشرة أشخاص رغبة في تخليصه، يمكنكم سؤال آية الله المنتظري لتتأكدوا أنني وقفت مع الخميني أیضاً يوم 15 خُرداد[230] قبل الذين يسمون أنفسهم اليوم علماء دين.
س: كنتم تأخذون المبالغ من الحكومة السعودية - يعني: من ابن سعود- فما فعلتم بها، أين أنفقتموها؟
ج: أولاً: لا ينبغي للجمهورية الإسلامية أن تتهم أحداً بشيء، والله وبالله ما أتاني أي مبلغ من ابن سعود.
ثانياً: اسألوا السفارة السعودية: هل تعرفني أو سمعت باسمي أصلاً؟
ثالثاً: إذا كان سلاطين المسلمين يرسلون إليّ هذه الأموال فما هو النفوذ الذي حققته حتى يرسلوا ذلك! هذه التهم كلها لأجل كلمات قلتها إظهاراً للحق وإبطالاً للباطل، ولذلك استحققت أنواع التهم بدون دليل.
س: ماذا تعتقد في ابن سعود، هل هو مسلم؟!
ج: نعم، هو يقول عن نفسه مسلم، فلا يحق لأحد أن يسلب الإسلام عنه. قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا﴾ [النساء: 94].
س: هل إسلامه مثل إسلام بني صدر ورجوي؟
ج: أولئك مسلمون أيضاً كما يصرحون عن أنفسهم، والأصل في المسلم أنه مسلم، هل کلّ من لم يرتضِ خرافاتكم كافر؟
س: عندنا دليل على أنكم تأخذون أموالاً من السعودية!
عندها تعجبت كثيراً وقلت: أروني دليلكم؟!
فأخرج المحقق ملفاً مكتوباً ثم أعطاني إياه، فرأيت الورقة بتوقيع السافاك، وكان نصها: سمعنا من رجال معتمدين أن السيد البرقعي قد أخذ المبلغ من ابن سعود.
فقلت في الجواب: أنتم تعتقدون أن رجال أمن الشاه كانوا كفاراً، وأن قتلهم كان واجباً، وقتلتم كثيراً منهم لهذا السبب، والآن كيف صارت شهادتهم حجة لكم؟! هل هم في رأيكم عدول؟! بمعنى: لماذا تقبلون شهادة عدونا، لعلهم أخذوها من بعض أعدائنا؟!
على كل حال: كانت صفحات الملف تقارب ألف صفحة ولم أسأل منه عن سوى خمسين صفحة أو أكثر قليلاً، وبقي ما بقي منه، ولا أدري في فيها.
والمؤكد أن المشايخ يكرهونني كرهاً شديداً، ولو تمكنوا من قتلي لقتلوني، وکما قلت فإنهم لا یحرمون علی أنفسهم إلصاق أي افتراء بهذا الضعيف، وهذا ما تبيّنه التهم والافتراءات التي ألصقوها بي، فالأسئلة التي قدمها المحققون أساسها تُهم غريبة لا دليل عليها، فهل يُصدق أن هؤلاء لا يعرفونني، وأنهم لا يعلمون شيئاً عن الجهود التي بذلتها مع الكاشاني ومصدق وغيرهم؟!
هل يجهل هؤلاء أنني كنت في الصف الأول مع الجماعة في اليوم 15 خرداد عام 1342هـ ش (يونيو 1963م) في ساحة "أرك" في طهران عندما أطلق علينا العدو ذخيرته؟!
أولاً يتذكرون اليوم الذي وقفت فيه أمام حكومة البهلوي المطرود ولم يشاركني وقتها جميع العلماء الذين يعدّون أنفسهم اليوم من رجال الدين، لم يكونوا موجودين حينئذ معنا في ذلك الوقت؟!
في أيام دولة الشاه شجعني بعض زملائنا الذين وقفوا معي ودافعوا عني على تأسيس مكتب لتعليم أصول العقائد والأحكام باسم «جمعية مسلم آزاد» (أي جمعية المسلم الحرّ) ومع أنني كنت مجازاً بالاجتهاد من مراجع معترف بهم من قبل الجميع ولا أحتاج إلى إذن لهذا العمل، إلا أنني أخذت تصريحاً لنشر مجلة بعنوان (حياة المسلمين) وكان الكاتب فيها ومديرها المسؤول أحد أصدقائنا وهو: «الشيخ مصطفى رهنما»، وكنا ندير هذه المجلة التي أوقفت مراراً، ومن جملة من كتب فيها الشيخ «محمد باقر كمرهإي» والأستاذ المحقق «حيدر علي قلمداران»، ومجموعة من العلماء والمفكرين، ولكن أكثر المقالات كانت يكتبها الشيخ «مصطفى رهنما»، (مدير التحرير).
ولو رأى هؤلاء المقالات التي كنت أقدمها في الأخبار اليومية عن الشاه «رضا خان سواد کوهی» وابنه «محمد رضا»، ونهبهم لبيت المال، وإسرافهم في الولائم، والانتقادات التي كتبناها حول مخالفات حكومتهم وفسادها، ودفاعنا عن حقوق المسلمين، ووجوب ردم الخلاف بين السنة والشيعة، وغير ذلك؛ أقول: لو قرأ هذا وأمثاله -من قلیلي الشرف- شيئاً منها لما رضي لي بهذه التهم، وهذا مختصر لبيان المواجهات التي كانت مع رضا خان وابنه.
من العجيب أنهم يسألونني: لماذا كتبت رسالة إلى ولاة الأمور؟! ولكن لا يقولون: إن ابني كان مسجوناً ثمان سنوات بسبب مشاركته في حزب مللي إسلامي، وقد كتبت رسالة خالية من التملّق أطالب فيها بإطلاق سراحه؛ لأنني كنت أعتقد أن الحكم الصادر عليه باطلاً، وكان الواجب علي أن أتقدم بطلب نقض هذا الحكم الظالم، مع أن حكومة السلطان الجائر لم تحركها هذه الرسالة وهذا التظلم.
والرسالة الثانية كتبتها لأنهم أخرجوني من المسجد بتهمة إفساد عقيدتي، فكتبت رسالة أتظلم فيها، وأدافع عن نفسي وعن اعتقادي، وأبين لولاة الأمور ظلم الخرافيين، مع أن كثيراً من المراجع المشهورين قدموا طلبات إلى المسؤولين في حكومة الطاغوت، وكانوا يقبضون منهم الأموال، وأنا لست منهم، واليوم لا يفصحون عن اسم واحد من هؤلاء، وأنا أعلم أن كثيراً من العلماء الذين يدّعون اليوم أنهم من أنصار الثورة كانوا قد أخذوا مناصب كبيرة في إدارة الدولة زمن الشاه، وأنهم قد كتبوا للشاه يعلنون له انصياعهم وطاعتهم، ومدحوه في الصحف ولكنهم اليوم آمنون ولا يتعرض لهم أحد.. بل أكثرهم الآن يُبجلون ويُحترمون.. فلماذا؟
السبب الحقيقي أن هؤلاء لا علاقة لهم بتنبيه العوام، أما أنا فأرى أنني مسئول أمام الله تجاه العوام، ولأنني أرى أن إيقاظهم وإرشادهم إلى الحق من أشد الضروريات.. وأننا يجب أن نتعاون على البر وقطع الطريق أمام كل ما يضرّ، ولأجل هذا لا بدّ أن أتحمل التهم وافتراءات المشایخ، بل وحتى أكثر من ذلك.
***
[230] خرداد: الشهر الثالث من شهور السنة الإیرانیة، ويقابله 21 أيار (مايو) إلى 20 حزيران (يونيو). والمؤلف يتحدث عن الأحداث التي وقعت في يوم 15 خرداد، سنة 1342 هجرية شمسية، الموافق 5 حزيران(يونيو) عام 1963م، حيث سبقها هجوم من قبل جنود دولة الشاه على المدرسة الفيضية في قم وضرب بعض علماء الدين، فقام الخميني باعتلاء المنبر في يوم 3 حزيران وهاجم فيها الشاه ونظامه، فتم اعتقاله في 5 حزيران، فخرجت مظاهرة كبيرة للمطالبة بإطلاق سراح الخميني في قم يوم 15 خرداد ، ووقعت صدامات عنيفة مع جنود الدولة، وقد عبر الدستور الإيراني عن يوم 15 خرداد بقوله: انطلقت الثورة الدامية العظمى للأمة الإسلامية في شهر خرداد عام 1342هـ. ش.، حزيران (يونيو)، 1963م. فكانت في الحقيقة نقطة انطلاق لهذه الحركة العظيمة الواسعة النطاق، ومن جراء ذلك قويت قيادة الإمام الخميني الإسلامية واستحكمت. اهـ. انظر: دستور الجمهورية الإسلامية في إيران (ص:9). (المُحَقِّق)