التضاد في العقيدة

فهرس الكتاب

(10) المعــارك بين الصحابـــة

(10) المعــارك بين الصحابـــة

من الأمور التي جعلت الإخوة الشيعة يبتعدون عن الحق كثيرًا، هو أنهم لا يستطيعون أن يتحملوا أي خطأ من الصحابة، وكأنهم يجبرونهم على أن يكونوا معصومين، وأن تكون أعمالهم خالية عن الأخطاء، وهذه هي عقيدتهم في علي ا؛ فهم يظنونه معصومًا عن الأخطاء والمعاصي.

نحن لا نؤمن بعصمة أحد من الصحابة حتى علي ا، والمعصوم عندنا هو من عصمه الله لإبلاغ رسالته، أي؛ رسول الله ج فحسب، ونرى أن بعض من الصحابة قد أخطأوا وارتكبوا بعض المعاصي.

فها هو حاتم بن أبي بلتعة، صحابي جليل ممن شهد بدرًا وأبلى في سبيل الله بلاءً حسنًا، لكنه عند فتح مكة كتب رسالة يخبر الكفار عن خطط الرسول ج طمعًا في أن يكون له عندهم يد وفضل فيحفظوا أهله وبيته في مكة، ولما كشف الله ستره، وعرف الرسول ج أمره، سأله: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» قَالَ حَاطِبٌ: وَاللهِ مَا بِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ القَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّج: «صَدَقَ وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا» فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟» فَقَالَ: «لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ [11].

وهناك من الصحابة من هرب من ساحة القتال، كالذين هربوا في أحد، لكن الله غفر لهم ذنبهم بنص صريح من القرآن الكريم[12]، وهكذا.

والآن - من واقع التجربة مع إخواني الشيعة - وكأني ببعض علمائهم يأخذون نفسًا طويلاً ويقولون: ها أنت قد وصلت إلى ما نقوله، وتقول بما نؤمن به -من أن الصحابة قد ضلوا وأخطأوا-!

لا، أخطأتم في الفهم؛ أنا لن أقول بما تقولونه، إنما أبين لكم ما أؤمن به وهو: لا معصوم إلا الرسول ج ، أما غيره فيمكن أن يخطئوا ويصيبوا، وقد يجتهدون فيخطئون أو يصيبون، لكن احتمال الخطأ لا يعني أن نتهم جميع الصحابة بالذنوب والمعاصي وأن نرمي تبعات جميع الذنوب والأخطاء على عاتق جميع الصحابة..

كما أشرت سابقًا، جاء إفراط علماء الشيعة من خطئهم الكبير يوم أن قالوا؛ بأن القائد يجب أن يكون في مأمن من الأخطاء والذنوب الصغيرة أو الكبيرة، وعلى أساسه قالوا بعصمة الأئمة واتصالهم المباشر بالله ، واعتبروهم أصحاب العقول الكاملة وقالوا إنهم يعلمون الغيب ويدركون كل العلوم والفنون. ويقولون كذلك؛ بأن علمهم علم لدنيّ، أي؛ وهبهم الله العلم من لدّنه وليس مكتسبًا من البشر.

وهكذا تدرجوا في مدارج الغلو إلى أن اعتبروا إمامهم العاشر - ابن ثمان سنوات - أفضل من أنبياء الله إبراهيم أو موسى أو عيسى ×.

فهذا الإنسان الذي يرى الصبي الذي لم يبلغ بعد - ابن ثمانية أعوام - أفضل من إمام التوحيد وأب الأنبياء وخليل الله إبراهيم × بحاجة أن نفهمه؛ أن الإنسان لا يمكن أن يكون معصومًا عن الأخطاء إلا إذا اتصل بالوحي، وحتى نبي الله محمد ج لو لم يكن الوحي يتداركه ويرشده ويصحح مواقفه لكان بالإمكان أن يقع في الأخطاء. ومثال ذلك:

دخل عمر ا يومًا على النبي ج، فوجده جالسًا وبجواره أبوبكر يبكيان، فتعجب من أمرهما وقال لهما: قولا لي لماذا تبكيان لأبكي أو أتباكى معكما؟

ثم أخبراه بأن سبب بكائهما هو تلك الآيات التي نزلت تعاتب النبي ج، لقبوله الفدية في أسرى بدر - وقد كانت هذه مشورة أبي بكر ا - ولم يكن هذا الرأي يرضي الله فقال: ﴿لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٦٨ [الأنفال:68].

ولا شك أن الرسول ج كان يغير مواقفه ويصححها في ضوء ما كان يمليه عليه الوحي.

إذا كان الرسول ج الذي اصطفاه الله واختاره لقيادة هذه الأمة، وكلفه بحمل آخر رسالات السماء إلى أهل الأرض قاطبة، لو لا الوحي الذي كان يتداركه في المواقف الحرجة وعند الحاجة لكان من الممكن أن يخطئ في اجتهاداته، فما بالك بالآخرين أمثال؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين؟ فهم بشر يصيبون ويخطئون، فهل من الممكن أن يطالبوا بما يطالب به المعصوم؟!

سبق أن قلنا بأن الشيعة حاولوا أن يهربوا من هذه المعضلة، فقالوا بعصمة الأئمة واتصالهم بوحي الله، بداية من سيدنا علي ا إلى آخر أئمتهم - الإمام المهدي الغائب - لكنهم تفاجئوا بالقرآن وهو يصرخ في وجوههم بأن محمدًا خاتم الأنبياء، فتهربوا وغيروا اسم طريق اتصال الأئمة بالسماء مع الحفاظ على شكله، فقالوا: إن عليًّا كان يتصل بالسماء عن طريق الإلهام؛ ولئلا يعترض أحد فيقول: لماذا غيرتم اسم الوحي بالإلهام؟ قالوا: هناك فرق دقيق بين الوحي والإلهام، ففي الوحي الذي خص به الأنبياء كان الرسول ج يرى الملك الذي يوحي إليه، لكن في الإلهام الذي خص به الأئمة لم يكن علي يرى الملك وإنما يسمع صوته!

وكل عاقل يستطيع أن يشعر بهذا التلاعب بالكلمات والمصطلحات، فيا ترى؛ ما أهمية رؤية الملك؟! والأصل والهدف هو فهم الأوامر السماوية، والمهم هو الاتصال بالله على منهج الأنبياء وطريقتهم، وبما أن عليًّا لم يكن نبيًا فلا يليق بنا أن ننسب إليه مثل هذا الكلام الذي يتبرأ هو منه، ولا يليق بنا أن نغير اسم الوحي بالإلهام، ونضع قوانين من عندنا، ونغير دين الله حسب أهوائنا..

الوحي يعني نزول كلام الله إلى رسوله سواء كان عن طريق ملك أو بدون ملك، فقد كلم الله موسى مباشرة دون أن يكون هناك واسطة من الملائكة، وها نحن نقول: أوحى الله إلى موسى. ولا نخترع مصطلحًا آخر لهذه الصلة كما يفعله علماء الشيعة، وكذلك الكلام الذي أنزله الله على محمد ج بواسطة ملك كان يراه يسمى كذلك الوحي، وهكذا الكلام الذي كان ينزله الله على علي وغيره - حسب زعمهم - لابد وأن يسمى وحيًا، لماذا التلاعب بالكلمات؟ وهل يمكننا بهذه الخدع أن نخدع شريعة الله؟!

إذا كنا نرى الرسول محمد ج خاتم الأنبياء فلا بد أن ننكر أفضلية صبي لم يتجاوز ثمان سنوات من عمره على كليم الله موسى ×، الذي كلمه الله مباشرة دون ملك... وكذلك لا نستطيع أن نفتري ونزعم أن أحدًا جاء بعد الرسول محمد ج معصوم، وقد أوتي العلم كله.

ولابد وأن نقبل بأنه قد يحدث من أولياء الله الصالحين كذلك بعض الأخطاء، ولكن ما يميزهم عن غيرهم من الناس أنهم كلما أدركوا خطأهم سرعان ما يعودون إلى الصواب ويتوبون إلى الله ويستغفرونه، وإذا أدركوا خطأهم في اجتهاد أو فتوى سرعان ما يؤوبون إلى رشدهم ويرجعون عن خطئهم، وهكذا كان حال الصحابة ي.

ذكرنا هذا الكلام، كمقدمة لجوابنا عن سؤالهم؛ فلماذا تقاتل الصحابة فيما بينهم؟

يقول المولى في كتابه المجيد: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٩ [الحجرات:9].

كما ترى من الآية أنه قد يحدث أن تتقاتل فئتان أو مجموعتان من الناس وكلاهما من المؤمنين بالله .

أجل، قد يظلم مؤمن مؤمنًا أو يطغى عليه ويتجاوز على حقه.. وهذا لا يعني أن كل فئتين تقاتلا باسم الإسلام أو الدين نعتبرهما مؤمنين، ولا يعني كذلك أن أحدهما مؤمن والآخر كافر! بل لابد لنا - أصحاب العقول - أن نحقق في الأمر وندرس القضية ليتضح لنا الحق عن الباطل، ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن هذا المنطلق تعال لننظر إلى روابط الصحابة وصلاتهم فيما بينهم:

قلنا إن الصحابة لم يكونوا معصومين عن الأخطاء، وبحكم بشريتهم فقد كان يحدث بينهم بعض المشاجرات والاختلافات، وكانوا يراجعون الرسول ج فيها، فيحكم فيما شجر بينهم بالعدل، فكانوا يصغون لحكم الرسول ج ويخضعون له دون أدنى ريب أو مناقشة أو جدل. وقد جرى الأمر على هذا المنوال في عهد أبي بكر وعمر وعثمانس كذلك، وكان يحدث أن يزجر الناس من الحاكم أو يشكو الحاكم رعيته، فكانوا في كل ذلك يطرقون باب القرآن ويرجعون إلى حكم الله وإلى قانون الشريعة ليحكم فيما هم فيه يختلفون.

فمثلاً: لم يكن عمر ا يرتاح لمواقف خالد، فطلب من أبي بكر أن يعزله، لكن كان لأبي بكر موقف آخر ورأى غير رأي عمر فلم يسمع كلامه. ويوم أن تولى عمر الخلافة عزل خالدًا عن الإمارة وقبل خالد حكم الخليفة بصدر واسع وقلب مفتوح، فقد كان ا ممن وهب نفسه لله، وشعر بمعنى العبودية لديه ـ، فلم يكن يختلف عنده أن يعبد ربه في ثوب القيادة أو في لباس جندي عادي.

ويوم أن تولى عثمان ا الخلافة وأجرى أحكامه، كان لعلي ا بعض المآخذ على طريقته في الحكم، لكن عثمان ا، لم يوافقه الرأي، ولم يحدث أن رفع علي عصا العصيان أو قاد انقلابًا على عثمان، أو مكر به، بل على عكس ذلك كله، فقد كان ينصحه إذا استنصحه ويشير إليه كلما استشاره، وأرسل أولاده يحرسون الخليفة في أيام الفتنة ويفدونه بأنفسهم، مع أنه لم يكن معجبا بسياسته وطريقة إدارته لشؤون الدولة.

إن العصابة المجرمة التي قدمت من مصر وغيرها أحدثت أول فتنة في الإسلام - ولم يكونوا من الصحابة - جاءوا وقتلوا الخليفة الراشد الثالث عثمان ا، وكان بإمكان الخليفة أن يأمر من عنده من العساكر والصحابة أن يخرجوا في قتال هؤلاء المجرمين إلا أنه اجتهد ومنع الناس عن حمل السيف؛ لئلا تراق دماء مسلمة بسببه في مدينة الرسول ج، وهذا كان اجتهادًا منه، وافقناه عليه أم لم نوافقه، صح أو لم يصح.

لكن بعد استشهاده لم ير الصحابة بأسًا في حمل السلاح فكل من استطاع منهم توجه إلى جانب من بلاد الإسلام وبدأ يجمع المجاهدين ويُكوّن جيشًا ليثأر للخليفة المظلوم ويؤدب تلك العصابات المجرمة.

أما في المدينة فأصبحت الدولة من غير خليفة، وكانت المدينة تحكمها سيوف أهل الفتنة الذين أجبروا عليًّا على قبول الخلافة وبايعوه وبايعه كذلك الصحابة، وقرر علي أن يصلح الأمور واحدًا تلو الآخر، حسب قاعدة الأولويات التي كان يراها، لتعود المياه إلى مجاريها.

وبما أن معاوية رفض بيعة علي ما لم يثأر لدم عثمان. ودليل آخر كان أهم عنده، وعلى أساسه رأى علي أن يؤخر قصاص قتلة عثمان، وهذا الدليل الأهم هو؛ أن عليًّا لم يكن يملك قدرة كافية يستطيع أن يواجه بها هؤلاء العصابة المجرمة، أما المجاهدون الصادقون من أبطال الصحابة وغيرهم فقد توزعوا في الأمصار ودخل الحابل بالنابل، ولم تكن معالم الأمور واضحة فكان علي بحاجة إلى مزيد من الوقت ليعيد الأمور إلى ما كانت.

وكانت هذه نقطة انطلاق الخلافات بين الصحابة، فمن هنا فإن أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير كانوا يصرون على معاقبة قتلة عثمان ا بأسرع وقت، وكانوا قد جمعوا جيشًا من المسلمين يريدون قتل كل من شارك في فتنة اغتيال الخليفة الراشد عثمان، ولم يكونوا يريدون قتال علي ا ألبتة، ولما اجتمع الجيشان جلس قادة الجيشين للتفاوض ومدارسة الموقف وبحث طرق إيجابية لحل الفتنة، فشعر أهل الفتنة أن أجلهم قد حان، وقرروا أن ينضموا إلى الجيشين، فمكروا وبدأوا القتال ليلاً، فخرج الأمر من أيدي الصحابة... هدأت نيران المعركة مع انتصار جيش علي ا، وكان قد استشهد طلحة كما استشهد الزبير، وأُسرت أم المؤمنين عائشة ل، بعد أن امتلأت ساحة المعركة بجثث المسلمين من الفريقين..

من مواقف علي ا وسيرته بعد الحرب، ندرك أن الخلاف بين الصحابة لم يكن إلا خلاف اجتهاد في فقه الواقع، وفي رؤية أولويات الأمور وطريقة إصلاحها، لا في الدين أو العقيدة.

وهذا هو علي ا يبشر عمْرو بن جرموز، قاتل الزبير -الذي حمل إليه بشرى قتله للزبير وسيفه لعله يحصل على هدية من أمير المؤمنين- بنار جهنم، ويقول له: سمعت الرسول ج يقول: «بَشِّرْ قاتلَ ابن صفية بالنار». فيقال: إنه لما سمع ذلك قتل نفسه.

وها هو يواسي ابن طلحة ويقول له: أرجو من الله أن يجعلني وأباك فيمن قال فيهم: ﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ ٤٥ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ ٤٦ وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ٤٧ [الحجر:45-47].

وجمع أمير المؤمنين أجساد قتلى المعركة من الفريقين في مكان واحد وصلى عليهم صلاة الجنازة.

والشيعة يعتقدون أن من استغفر له أمير المؤمنين علي ا يغفر له ويدخل الجنة، وها هو يصلي على قتلى المخالفين..

أرادت العصابة المجرمة من أهل الفتنة أن يجمعوا أموال المسلمين الذين قتلوا في المعركة لتوزع بينهم، لكن أمير المؤمنين رفض ذلك ولم يعدها غنائم حرب وأمر بأن يُعاد الأموال إلى أصحابها، فقال من انضم فيما بعد إلى الخوارج من جيشه: أتحرّم أموالهم وقد أحللت دماءهم؟! لكن عليًّا كان يؤمن بأن هذه فتنة وقعت بين أهل القبلة.

هكذا تعامل علي ا مع الذين قضوا نحبهم وماتوا ولم يكن بإمكانه أن يعمل لهم أكثر من هذا.

أما مع الأحياء من الأسرى، وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة؛ فلم يعاملهم معاملة أسرى حرب الله ورسوله، ولا سجنهم أو طاردهم أو عاقبهم.

اقترب إلى أم المؤمنين عائشة ل وسلم عليها، فسمع جوابها.. ثم استغفر لها، واستغفرت عائشة له.

ولما أرادتْ الخروج من البصرة، بعث إليها علي بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر، يرافقونها إلى مكة المكرمة. ولم يحدث أن استغل علي ا المنبر لشتم عائشة أو الطعن فيها... فلم يقل أمير المؤمنين علي ا أن طلحة أو الزبير ليسا من أهل الجنة - وقد بشرهما الرسول ج بالجنة.

حزن علي ا على ما حدث أشد الحزن وتأسف كثيرًا، وكذلك عائشة حزنت طويلاً على ما حدث.

وإذا كنا صادقين فلنكن كأمير المؤمنين علي ا؛ إن كان قد شتم عائشة فلنشتمها، وإن كان قد احترمها واستغفر لها فلنفعل مثل ما فعل.

لماذا أصبح البعض يرون أنفسهم أفقه من أمير المؤمنين علي ا، وأصبحوا كالخوارج الذين طالبوا مال المخالفين وعدوها من الغنائم التي تحل لهم؟!

وها هم أولاء يرون أعراض المسلمين قد حلت لهم، فلا همَّ لهم إلا شتم عائشة وغيرها من المسلمين الذين استغفر لهم أمير المؤمنين علي ا.

لا شك بأنه فيما دارت من المعارك بين الصحابة كان علي ا أحق من غيره، وذلك لأنه كان من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة وقد بايعه كبار الصحابة بالخلافة، ولم يكن عنده ضعف يعزله عن الخلافة.

لكن كان لمعارضيه أدلتهم الشرعية كذلك، فهم كانوا يعترضون على وجود العصابة المجرمة في جيش علي ا، وكانوا يطالبون أن يحاكمهم أمير المؤمنين ا، وكان كلامهم فيما يطالبون به صوابًا لا يعتريه شيء، وذلك لأنه:

كان في جيش علي ا مجموعة تتحلى بصفات المنافقين، وكانت تثير الفتن والقلاقل بين المسلمين، وهم الذين أشعلوا نيران الفتنة والمعركة في تلك الليلة التي اجتمع فيها علي وطلحة والزبير -رضي الله عنهم أجمعين-، واتفقوا على خطة ماكرة، فهجموا من هنا على جيش طلحة والزبير وعائشة ومن هناك على جيش أمير المؤمنين علي ا، فظن كل منهما أن الآخر قد غدر به، فثارت المعركة الدامية التي استشهد فيها طلحة والزبيرب.

وفيما بعد في صفين لعبوا نفس الدور الرخيص، فلما وجدوا أن المعركة بدأت تحسم لعليا تركوه ووقفوا يساندون جيش معاوية، وحاصروا عليًّا وأجبروه على الصلح لئلا تعود بلاد الإسلام تحت راية واحدة بعد أن مزقت وحدتها، ولئلا ينشغل المسلمون بالفتوحات الخارجية وتوسيع رقعة الإسلام.

ثم بعد صفين لما وجدوا أمير المؤمنين عليًّا قد عزم أن يعيد وحدة بلاد الإسلام بالتفاوض أو الحرب، خرجوا على علي ورفعوا راية الخلاف معه وكفروه وبدأوا يقتلون أصحابه المخلصين..

وفي نهاية الأمر، اضطر علي ا أن يهجم عليهم - على أصحابه السابقين - في نهروان يطالبهم بدم أحد الصحابة الذي قتله هؤلاء الخوارج ظلمًا وزورًا، فأحدث فيهم مقتلة رهيبة قتل فيها منهم ما يزيد على أربعة آلاف خارجي، وفر الآخرون، ومنهم كان ذلك الشيعي الذي تآمر مع أصحابه واستطاع أن يقتل أمير المؤمنين عليًّا ا فيما بعد؛ ثأرًا لأصحابه.

فقد فعل أمير المؤمنين علي ا قبيل شهادته ما كان يطالبه به طلحة والزبير وعائشة وغيرهم من الصحابة حيث قتل أربعة آلاف من العصابة المجرمة التي كانت ترافقه في معاركه السابقة وتقف بجواره.

لا شك لو أن عليًّا ا لو وجد فرصة لكان يقوم بأعمال إصلاحية يرضي بها الجميع، ليعيد المياه إلى مجاريها، ولتجتمع كلمة الأمة، لكن البشر ليسوا معصومين، وإنْ كانوا صحابة رسول الله ج، فقد كان لهؤلاء الصحابة – المخالفين - رأيهم ووجهة نظرهم، وكان لأميرالمؤمنين علي ا خطته ورأيه، لكن الأجل لم يسمح له، فحدث ما حدث...

وهذا كله ليس ذريعة أن نكفر المخالفين وذلك لعدة أمور:

أولاً: إنهم لم يكونوا على خلاف مع أمير المؤمنين علي ا.

ثانيًا: إن عليًّا لم يكفرهم وكان يراهم إخوانه قد اختلفوا معه..

وهذه كلها لا علاقة لها لا بعمر ولا بأبي بكر ولا بعثمان الذين ماتوا قبل هذه الحوادث بزمن طويل، ولا شأن لها كذلك بقضية الخلافة من بعد رسول الله ج.

المهم أن ما حدث بين الصحابة من المعارك لا صلة له من قريب ولا من بعيد بما وضع الشيعة عليه أساس مذهبهم؛ ولا يصح أن تستغل هذه الحوادث التاريخية لأهداف سيئة طعنًا في صحابة رسول الله ج ومن ثم طعنًا في الإسلام ومصادره...

[11]- متفق عليه، صحيح البخاري: ج5، ص77، ح3983، صحيح مسلم، ج4، ص1941، ح2494. [12]- قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ ١٥٥ [آل عمران: ١٥٥] .