التضاد في العقيدة

فهرس الكتاب

(6) لماذا استعجلوا؟!

(6) لماذا استعجلوا؟!

ومن مآخذهم: لو لم يكن الصحابة يدبرون مؤامرة اتفقوا عليها وراء الكواليس، فلماذا أسرعوا في اختيار الخليفة وجثمان الرسول ج لم يُدفن بعد؟! فاستعجالهم في الأمر - قبل دفن الرسول ج - إن دل على شيء فإنما يدل على خدعة ومؤامرة دبروها بالليل؟!

لا ندري ماذا يقصدون بهذا الكلام؟ وماذا يعنون ببث مثل هذه الترهات؟!

فهل يقصدون من ذلك الضحك على عقول البشر؟ أم التلاعب بعقول الناس؟

فما تأثير الإسراع أو الإبطاء في تقرير مصير علي ا خليفة للمسلمين؟!

فهم يزعمون أن جميع الناس سمعوا الرسولج بآذانهم، ورأوه بأعينهم وهو يأخذ بيد علي في غدير خم ويجعله خليفة من بعده.

لكن في سقيفة بني ساعدة لم ينطق أحد ببنت شفة ولم يطالب أحد بحق علي، وحتى من عامة الناس لم يرفع أحد رأسًا ولا شكوى. فمن هنا نقول بأن الذين دبروا هذه المؤامرة المزعومة لم يكونوا يخافون بتاتًا من أن التأخير في اختيار الخليفة قد يؤثر سلبًا فيزداد حب الناس لعلي، إذ كل الناس حسب زعمهم اتفقوا على تنحية علي وتجاهل حقه.

وهل كانوا يتوقعون اقتحام جيش كان يعسكر على أبواب المدينة قد يهاجمهم دفاعًا عن علي، إن تأخروا في الأمر؟!

فليست هذه الترهات إلا نوعًا من التلاعب بأفكار عامة الناس وتشويه صورة صحابة الرسول ج الأبرار، فلم يكن يؤثر مثل هذا الاستعجال أو الإبطاء في أمر علي بشيء.

وتعالوا نتصور معهم لو أن أمر اختيار الخليفة تأخر إلى ما بعد دفن الرسول ج، فماذا كان بالإمكان أن يحدث؟

لا شك أن هذا الأمر لم يكن ليغير من الواقع شيئًا، كل ما كان عساه أن يحدث –حسب عقيدة الشيعة- هو أن عليًّا يقوم بين الخلائق ويذكرهم بما سمعوه بآذانهم ووعوه بعقولهم قبل سبعين يومًا من الرسول الأمين ج. لكن ماذا كان يؤثر قول علي في أناس رفضوا كلام الرسولج نهارًا جهارًا؟ ولا شك أنهم كانوا يضحكون على علي ا ويضربون بكلامه عرض الحائط. فهل من لم يوقر كلام الرسول ج، ولم يبدي له بالاً سوف يصغى لعلي ا؟!

فالشيعة يقولون بأن هؤلاء القوم - أي الصحابة كلهم - قبل سبعين يومًا بايعوا عليًّا وأقروا بخلافته واعترفوا بها، لكنهم في الشورى - في سقيفة بني ساعدة - بعد سبعين يوم فقط نقضوا عهدهم وخانوا وعدهم.

فماذا يؤثر وعظ علي في مثل أولئك الناس؟!

فمن لم يطع أمر الرسول ج، لا شك أنه لن يطيع عليًّا فيما يقوله، والشيعة يزعمون في مصادرهم أن عليًّا فيما بعد اعترض على الشورى وعلى اختيار الخليفة، وطالب بحقه، ولكن ذهب كل مساعيه أدراج الرياح ولم تغير من الواقع شيئًا، فبقي الأمر على ما كان.

إذن لم يختلف الأمر بالنسبة لسيدنا علي سواء عجل الناس في اختيار من يخلف رسولهم ج أم أجلوا، ولا ندري ماذا يعني من يثير مثل هذه الشبهة إن لم يكن يقصد من ورائها تضليل الناس وتشويش أفكارهم؟!

لكن حتى لا يبقى في صدورهم شيء، ولئلا يأخذوا من هذا الأمر ذريعة يخدعون بها الناس، نتصفح أوراق التاريخ ليتضح لنا سبب استعجال الصحابة في اختيار من يخلف الرسول ج:

اجتمع أحد قادة الأنصار وهو الصحابي الجليل سعد بن عبادة، مع بعض رجال الأنصار في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرسول ج، وتحدث معهم عمن يخلف الرسول ج، فاقترح عليهم أن يكون الخليفة من الأنصار، وبما أنه أكبرهم ومن قياداتهم فوجد نفسه جديرًا لهذا الأمر، ولم يكن اختيار الخليفة قد تطرق إلى أذهان المهاجرين، ولعل لو لا هذا الأمر الذي أحدثه سعد بن عبادة لكان أمر اختيار خليفة الرسول ج سيتأخر إلى بعد دفن الرسول ج.

لكن هذا الموقف المفاجئ من سعد بن عبادة جعل الجميع ينتبهون إلى أهمية الأمر وخطورته، وإلى ما عساه أن تحدثه مثل هذه الحركة من سعد، ولم يكن قادة المهاجرين وكثير من الأنصار يرون سعدًا جديرًا بمثل هذا الأمر، من هنا تحرك كثير من الأنصار وكبار المهاجرين لتدارك الموقف، فدخل قادة المهاجرين سقيفة بني ساعدة من دون دعوة مسبقة، ولا حتى برنامج مسبق، ومن دون خطة مرسومة أو مؤامرة مدبرة بليل - كما يزعمون - فحدث نقاش طويل وأخذ ورد في الكلام، لم يذكر خلاله اسم لعلي أبدًا؛ وكان سعد يصر على موقفه، لكن قادة المهاجرين أدلوا بدلوهم في بيان جدارتهم بالخلافة وأهمية اختيار الخليفة من قريش، واستطاعوا أن يقنعوا الجميع بما يرونه من وجه الصواب، ثم قام الجميع وبايعوا أبابكر الذي رشحه عمر وعرفه بأنه أولاهم وخيرهم جميعًا لهذا الأمر.

وبقي سعد يعارض، لكننا بعد دراسة واقع الأمر لا نجد إلا أن نقف في صف من اتفق الشورى باختياره خليفة للرسول ج، أي أبا بكر الصديق الذي اتفق الجميع على اختياره خليفة للمسلمين، دون سعد ودون غيره.

ويتضح لنا هذا الموقف أكثر من ذي قبل من وقوف جمهور الأنصار في صف أبي بكر.

أجل، هذا هو عالم التربية النبوية التي ربى رسول الله ج أصحابه عليها، فها هم الأنصار يدلون بآرائهم لاختيار رجل غريب عنهم - أي: من بلد آخر - ليكون قائدهم دون ابن عمهم الأنصاري، هكذا قضت التربية النبوية على التعصبات القومية والنزعات الجاهلية في ذلك المجتمع الطاهر النظيف. (واليوم في إيران -في بلد يهتف بالشعارات الإسلامية، ويرى نفسه حامل لواء الدين المبين- لا يمكن بحال من الأحوال أن يصعد مسلم من بلد آخر مهما علا شأنه على كرسي القيادة البتة).

ولو اجتمع الأنصار على ابن عمهم سعد بن عبادة ووقفوا بجانبه لم يكن للمهاجرين أن يرفضوا ذلك فلم يكونوا يملكون قدرة يواجهون بها الأنصار، فستصبح الخلافة للأنصار دون منازع.

ويا ليت من يتهم صحابة الرسول ج بحب الجاه والتعصب للقبيلة والنزوع إلى الأعراف والتقاليد العشائرية أن يدقق في موقف الأنصار هذا؛ كيف قدموا الخلافة التي كانت لقمة سهلة بين أيديهم إلى رجل من قبيلة أخرى بل ومن بلد آخر... فهل بعد هذا يستطيع عاقل أن يتهم الأنصار بالتغاضي عن أمر الرسول ج، ورفض خلافة علي ا، والوقوف بجانب رجل آخر اغتصب حقه.

حقًا استدلالهم يجعل الحكيم حيرانًا، وكأنهم يقولون: إن سارقًا كان يتصدق بما سرق ابتغاء وجه الله!

إذا كان الاستعجال في أمر اختيار الخليفة أمرًا مذمومًا، فلا يوجه اللوم إلا إلى سعد بن عبادة وحده، لا إلى الصحابة كلهم، وإن كنا لا نتجرأ نحن أن نلوم الصحابي الجليل سعد بن عبادة، بعد ما تبين لنا أنه لم تكن هناك أية مؤامرة ولا خديعة ولا مكر - كما يزعمون - وإنما كان اجتهادًا من سعد واقتراحًا قدمه إلى بني قومه وقبيلته، ولم يكن في الأمر استعجال ولا استغلال للموقف.

فقد كان مجتمعهم مجتمعًا راقيًا تحكمه التربية النبوية، وقد كانوا يرون في الموت رحلة إلى ما لابد منه، ويرجون للميت الخير وكانوا بعيدين كل البعد عن طقوس العزاء وتمزيق الثياب وضرب الصدور وشق الجيوب والصراخ والعويل وغيرها ويرونها من العادات والرسوم الجاهلية، ولم يكن جثمان الرسول ج مرميًا على الأرض، وإنما انشغل بغسله وتدفينه خيرة أهل بيته. ففي مثل هذه الظروف الهادئة - مع عظم المصيبة - لماذا نلوم سعدًا لو انشغل بأمر آخر؟!

ونتساءل: لماذا لم يحضر علي ا بنفسه إلى الشورى ليقف سدًا منيعًا في وجه تلك المؤامرة المزعومة، كان بإمكانه أن يحضر ويذكر الناس بما كان بينهم وبين رسولهم ج قبل سبعين يومًا في غدير خم. فلم تكن قضية الشورى وما كان يدور في سقيفة بني ساعدة سرًا لا يعرفه أحد، وكان بإمكانه أن يحضر مثل عشرات آخرين ويدلي برأيه ويطالب بحقه. فهل كان هناك أمر أهم من هذا؟

هل تكفين الرسول ج وغسل جثمانه - مع وجود أناس آخرين يقومون بهذا الأمر - أهم من ضلالة الأمة كلها؟!

فقد كان بإمكان علي ا أن يوكل أحدًا من أهل بيته ليقوم بتكفين جثمان الرسول ج ويذهب إلى الشورى ليتدارك الأمر. ولماذا لم يحضر هؤلاء الأربعة أو الاثنا عشر من أتباعه الصادقين إلى السقيفة، وإن كانوا قد حضروا فلماذا سكتوا؟ وأين كان بنو هاشم؟

ألا يدل كل هذا على أن هذا الادعاء لا وجه له من الحقيقة، ولم يدّع علي ا يومًا أنه خليفة منصوب من الله ، ولا أن الرسول ج قد اختاره خليفة من بعده؟

لعل أحدًا يقول: كيف يستطيع المرء أن يترك جثمان الرسول ج وينشغل بأمر كهذا، فهل كان علي مثل سعد لتصرفه الإمارة والكرسي عن تجهيز جنازة الرسول ج؟

والجواب: إن الخلافة ليست كرسيًا يحجز أو مقامًا يُطلب، وإنما كانت واجبًا كُلِّف به عليا بأمر من السماء، فطلبه عبادة وواجب لا يمكن لمثل علي أن يتهاون فيه، وكان ينبغي لعلي وهو يرى الأمة على الهاوية تكاد تنحرف فتضيع كل الجهود التي بذلها الرسول ج وتذهب رسالته أدراج الرياح أن يحضر إلى الشورى ليقول كلمته وليطالب بحقه أو بواجبه.

ولا يعد الاستعجال في اختيار القائد أمرًا مستهجنًا في أعراف الناس والدول، فلو كان كذلك لم تعلن الجرائد الحكومية والإعلام الرسمي في إيران عن اجتماع مجلس الشيوخ - مجلس خبرگان - مباشرة بعد وفاة الخميني واختيار «خامنئي» مرشدًا عامًا لإيران.

اجتمع أعضاء مجلس الشيوخ الإيراني على أجنحة الريح بعد وفاة الخميني مباشرة في طهران، ولم يحضروا على جثمان قائدهم وإنما اختاروا من يخلفه أولاً - والصحابة على الأقل ودَّعوا رسولهم وحضروا على جسده وقبَّلوه - حتى ابنة الخميني نفسه قبل أن تفكر في أبيها كانت تفكر في إمارة أخيها، ففي اليوم التالي من وفاة الأب وقبل أن يدفن صرحت لمراسل أمريكي: «... قال والدي بأن أخي يستطيع أن يخوض ميدان السياسة بعد وفاته...».

إذن لا يعد الإسراع في اختيار الخليفة الجديد عيبًا، ولو كان كذلك لم يكن علماء الشيعة ليقلدوا الصحابة فيه بعد أربعة عشر قرنًا من الزمن!

ويوم أن مات «الخميني» كان «رفسنجاني» هناك، فقام يخطب في نساء الأسرة يقول لهن: اُسكتن! ينبغي أن نفكر في حفظ النظام الذي أسسه «الخميني»!

نرى بأن الموقف الجليل الذي يبعث على الحزن والبكاء، إذا تعارض مع المصالح الخطيرة واختيار الخليفة تُمنع النساء عن البكاء والعويل رغم شغف الشيعة بالبكاء والعويل على الميت.

ونعيد مرة أخرى بأن موقف الصحابة لم يكن مع الإسراع في اختيار الخليفة، ولو لا موقف سعد بن عبادة واجتهاده الشخصي، لعل الأمر كان يترك إلى ما بعد دفن الرسول ج.

مع ذلك لم يهمل الصحابة جثمان الرسول ج؛ فقد رجع الناس من سقيفة بني ساعدة بعد عقد الشورى وانتظروا إلى أن حضر سائر الناس من أطراف المدينة والبوادي القريبة، وشاركوا جميعًا في دفن الرسول ج.

أيًا كان الأمر؛ فقد وصلنا في بحثنا هذا إلى أنه سواء كان انتخاب الخليفة قبل تجهيز الجنازة أو بعده، لم يكن يغير شيئًا في حق علي ا لأنه لم يكن مرشحًا للخلافة أبدًا. وزيادة على هذا، قد وضحنا بأن إثارة القوم لشبهة استعجال الصحابة في أمر اختيار الخليفة ليس إلا محاولة منهم لبث الشكوك وإثارة الشبهات حول الصحابة على أنهم تآمروا على اغتصاب حق علي ا، وعلى أنهم لم يبالوا بالرسولج وجثمانه الطاهر، وأنهم كانوا يحاكون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على الإسلام!!!