(12) فـي ظـلال ســيرة أبـي بكـر الصـديـق ا
لقد كان أبوبكر الصديق ا أول المتهمين في المؤامرة الرخيصة أو الدسيسة المزعومة التي دبرت في اغتصاب حق علي ا، أو الانقلاب الأسود على خلافته. من هنا كان ولابد أن نلقي الضوء على شخصيته، وننظر إلى سوابقه وإلى تفاصيل سيرته؛ لعلنا نجد ثغرة تكشف لنا عن سوء نواياه، ولعلنا نصل إلى أمور توضح لنا معدن الرجل إن كان صالحًا أو طالحًا..
شعورنا بما تحمّله الرسول ج في بداية أمر الإسلام من المشاق في سبيل دعوته بين شعاب مكة الصلبة وشعبها المتعنت الجلف، يجعلنا نعتز به ج، ونكنّ له حبًا فوق حب، فقد تحمل ج كل المصائب وصبر على كل الظروف القاسية عسى أن يهدي الله به الناس، فما آمن له في بداية أمره إلا زوجته خديجة ل ثم صديقه أبوبكر ا.
ويقول الشيعة بأن عليًّا هو الرجل الثاني، والثالث أو الرابع - ولعله الخامس - هو أبو بكر.
نقبل منهم كل هذا، لأنه لا يغير من الواقع شيئًا، ولعلنا لسنا بحاجة أن نذكر بأن سيدنا عليا كان صبيًا لم يتجاوز ثمانية أعوام يعيش في بيت الرسول ج، وتحت رعايته الكريمة، في حين أن أبابكر كان صديقه الحميم، وقريبًا من عمره ج.
فقد آمن به أبوبكر ا، وصدق في إيمانه، وكان يقبل من الرسول ج كل شيء بصدر رحب وقلب واسع.
ففي قصة الإسراء والمعراج قال الرسول ج بأنه أسرى إلى بيت المقدس، ومن هناك عُرج به إلى السماوات العلى، وجاوز السماء السابعة، ووصل إلى سدرة المنتهى، ثم رجع في نفس الليلة إلى فراشه. استهزأ به كفار قريش. وطار أبوجهل بالخبر إلى أبي بكر وأخبره مستهزءًا بما يقوله الرسول ج؛ عسى أن يوسوس في صدر أبي بكر ويجعله يشك في إيمانه. لكنه وجد أبابكر يتساءل بقلب الرجل المؤمن: أو قال ذلك حقًا؟
أطلق أبو جهل ضحكة عالية في الهواء يستهزئ بالرسول ج وقال: نعم، محمد يزعم ذلك.
فإذا به يتجمد كالصخرة الصماء وهو يسمع أبا بكر المؤمن الصادق يقول: إن كان قال ذلك فقد صدق.
هذا الموقف وغيره من المواقف الرشيدة جعلت أبابكر يُلقب بالصديق.
ومما يكشف لنا عن مدى حب أبي بكر ا للرسول ج، ومدى تفانيه وإخلاصه وإيمانه له أن قدم بنته وفلذة كبده التي لم تتجاوز تسع سنوات بعد إلى الرسول ج الذي تجاوز الخمسين من عمره ليتزوجها.
أجل، قدم ابنته إلى الرسول ج في تلك الأيام العصيبة التي كانت سهام الكفر من كل جهة تصوب نحو الرسول ج، وكان المصطفى ج في غاية الضعف تهدده المصائب والأخطار من كل جانب، إلى درجة أنه بدأ يفكر في الهروب من بيته ومدينته وعشيرته.
شارك أبوبكر الصديق ا رسول الله ج في كل المواقف العصيبة، وشاركه في كل الظروف المستعصية التي تصفي معادن الرجال وتكشف عن مكامن الصدور.
ويوم أن جاء الأمر بالهجرة، هاجر جميع المسلمين إلى المدينة، ولم يبق في مكة إلا رسول اللهج وأبوبكر وعلي ب، وتم الاتفاق على أن يبيت سيدنا علي ا على فراش الرسول ج ليفدي الرسول ج بنفسه كأول فدائي يقوم بعملية استشهادية في الإسلام. ويُكلَّف أبوبكر بصحبة الرسول ج في الهجرة، ليشاركه آلام الطريق وأخطار الأعداء الذين يتربصون بالرسولج من كل حدب وصوب.
دعوني أخرج من سيرة أبي بكر ا قليلاً، لأوضح نقطة قد يستغله بعض من في قلبه مرض. فأنا لم أركز في هذا الكتاب على سيرة علي ا، وعلى مناقبه وفضائله ليس لأنني - لا سامح الله - أنكر بطولاته وشجاعته وإيمانه وإخلاصه وتقواه، بل أعترف وأقر بكل ذلك وأعتز به فهو صهر الرسول ج، وأول فدائي في الإسلام، وفاتح خيبر ومن المبشرين بالجنة ومن الخلفاء الراشدين، لكن ليس بيننا وبين الشيعة خلاف على مكانة علي ا، وعلى مناقبه فنحن نتفق معهم في كل ما يقولونه في علي ا، غير ما يغالون ويحرفون من سيرته.
نعود لنقول: إن أبا بكر ا رافق الرسول ج وخرجا في رحلة الهجرة المشهورة، وخرج الكفار يتعاقبونهما ويترصدون بهما في كل مكان، فالتجأ الرسول ج وصاحبه إلى غار ثور عسى أن تخف زحمة المطاردة فيستمروا في الهجرة، لكن الكفار استعانوا بخبراء الطريق ووصلوا إلى غار ثور. وكان أبوبكر ا قلق مما يجده في هذا الموقف الحرج فها هم الكفار يتقدمون إليهما خطوة خطوة، وها هو رسول الله ج سرعان ما سينكشف أمره، وها هي الأخطار الجسيمة تكاد تنزل كالصاعقة على رسول الله وعلى دعوته، فكان قلب أبي بكر يتفتت ألمًا وحزنًا على رسول الله ج. وشعر الرسول ج بما يعانيه صاحبه، فهدأ من روعه وقال له: «يا أبابكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».. «لا تحزن، إن الله معنا».
وهذه الواقعة هي تلك التي سجلها القرآن الكريم: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾ [التوبة:40].
نعرف من جملة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40]؛ أن الرسول ج كان يقول لأبي بكر: يا أبابكر، إن الله معي ومعك، ونعرف كذلك بأن الله مع الجميع؛ مع الكافر ومع المسلم، يراقب أعمالهم، لكن الرسول ج يقصد هنا شيئًا آخر، فهو يعني بكلامه هذا: يا أبابكر، لا تحزن ولا تفكر فإن الله معي ومعك يحافظ علينا وينجينا من كيد الكافرين. أي؛ أن الله برحمته معنا.
ولو كان هنا علي ا مع الرسول ج في هذا الموقف لكان كل صبي شيعي يلقن هذه الآية ويحفظها، ولكانت كلمة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40] شعار المذهب وورد ألسنة القوم، أما لسوء حظهم أن الآية جاءت تصف موقفًا من مواقف أبي بكر الرشيدة! إذن ينبغي أن يكون لها تفسير وتأويل آخر غير ما تقصده الآية!! فجاء علماء الشيعة ليضربوا أخماسًا في أسداس ففكروا وقدروا إلى أن قالوا: أجل، كان أبوبكر ناقص الإيمان، فخاف!
وبمكر ودهاء فسروا كلمة «الحزن» بالخوف! وشتان بين المعنيين!
فقد حق لأبي بكر الصديق ا، أن يحزن على هزيمة الإسلام وانتصار الكفر، وعلى شهادة الرسول ج، وشهادته هو ولم يكملا المسيرة بعد، ومازال الدين لم يكتمل والرسالة لم تنتهي بعد، فإذا كان هذا الحزن عيبًا ونقصًا يعاب عليه الصديق ا ينبغي أن نعيب على الرسولج كذلك إذ كان يعتريه شيء من الحزن أحيانًا، أفلم تقرؤوا قوله تعالى: ﴿قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ ٣٣﴾ [الأنعام:33].
نقول لمن يفسر «ا لحزن» بالخوف:
أولاً: ألا تخاف الله وألا تتقيه في هذا التأويل وهذا التحريف؟
ثانيًا: حتى الخوف في مثل هذه المواقف لا يعد ذنبًا ولا نقيصة، أو لم تقرؤوا قول ملائكة الرحمن لسيدنا لوط × فيما يرويه لنا الله ﻷ:
﴿وَلَمَّآ أَن جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗاۖ وَقَالُواْ لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٣﴾ [العنكبوت:33]
هذا هو الجواب الذي استنبطناه من القرآن الكريم، لعلهم عسى أن يصغوا إليه.
وكان لأبي بكر الصديق ا مواقف عظيمة وخدمات جليلة في المدينة كذلك، أكثر من أن تعد وتحصى، فقد رافق الرسول ج في جميع معاركه وغزواته.
لقد آمن ثم هاجر، ثم جاهد، فهو من أبرز من يشملهم قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٢٠ يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ٢٢﴾[التوبة:20-22].
وقد كان أبوبكر الصديق ا ممن لا يبخلون في سبيل الله تعالى بما وهبهم الله من المال، فكان رمزًا وقدوة في الإنفاق في سبيل الله ﻷ؛ وكان ممن ينفق عليهم ويلطف بهم أحدُ أقاربه الفقراء، ومن سوء حظه أنه سقط في المؤامرة التي قادها المنافقون في حديث الإفك، فأشاع بعض كلامهم عن عائشة ل، فحلف أبوبكر الصديق ا ألا ينفق عليه مرة أخرى، لكن الله ﻷ صحح هذا الموقف منه فأنزل على رسوله آيات بينات تُتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
﴿وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٢٢﴾ [النور:22].
لما سمع أبوبكر الآية تقول له: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡ﴾ [النور:22] قال بحزم الرجل المؤمن الصادق: بلى، أحب أن يغفر الله لي. ثم بدأ ينفق على ذلك الرجل ابتغاء رحمة الله وغفرانه ورضوانه.
وقد كان آية في البطولة والفداء، شهدت له ساحات المعارك ما لا يستطيع إنكاره الأعداء. وكان له ولد مشرك يقاتل في صف الكفار، قال له بعد ما من الله عليه بالإسلام: يا أبتِ، في إحدى المعارك وصلت خلفك، وكنت قادرًا على قتلك، لكن أخذتني رأفة البُنوّة فلم أهجم عليك.
فقال له أبوبكر: والله الذي لا إله إلا هو، لو وجدتك في مثل هذا الموقف لقطعت عنقك.
هذا هو المؤمن الذي تعجز الجبال الراسيات عن حمل إيمانه. ذلك الرجل الذي باع نفسه وماله لله، يشتري بها رضوانه ومغفرته.
ولما اشتد مرض رسول الله ج وحانت لحظاته الأخيرة أمر أبابكر أن يصلي بالناس إمامًا.
وبعد رحيل الرسول ج إلى الرفيق الأعلى تولى قيادة سفينة الإسلام في تلك الأمواج الهالكة وتلك الظروف الصعبة.
لم تستمر خلافته إلا زمنًا يسيرًا لكنه استطاع أن يسجل على صفحات التاريخ أسطرًا يعتز بها الإسلام والمسلمون، ويفتخر بها التاريخ الإسلامي؛ فقد استطاع بعون من الله ﻷ أن يعيد للإسلام شوكته وسلطانه بعد أن كاد أن يذهب أدراج الرياح. قضى على فتنة المرتدين وقطع رؤوس أبالسة البشر الذين ادعوا النبوة من بعد خاتم الأنبياءج، ثم جهز الجيوش المؤمنة وضرب بهم حصون بلاد الفرس والروم، فأذاق إمبراطوريات العصر طعم الهزيمة.
وشعر بالخطر على القرآن الكريم يوم أن استشهد عدد كبير من قراء كتاب الله في المعارك الدامية التي دارت بينه وبين المرتدين، فأمر بجمع القرآن الكريم، وهذه منقبة له جد عظيمة لابد أن يسجل له بمداد من ذهب.
رحم الله أبابكر الصديق، وغفر له، ورضي عنه، وأدخله الجنان والفردوس الأعلى، وجمعنا به في ركب الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، إخوانًا على سرر متقابلين.. آمين!