(1) المنـــافــــق والفــــرص
يقول بعض علماء الشيعة: اغتصب الصحابة حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ا بعد وفاة الرسول الأمين ج، فتجاهلوا ما نص عليه ج في خلافة علي من بعده، وتآمروا جميعًا على مخالفة أمره ج على علم ودراية منهم!
تعالوا معي لنجاري إخواننا من الشيعة فيما يزعمون، ثم لنسألهم:
- هل كفر الصحابة بفعلهم هذا؟..
وهم سيجيبون على هذا السؤال: لا شك في ذلك، فقد ارتدوا وكفروا؟!
وهذا قياس جلي واضح وصحيح، فمن يغير حكم الله ﻷ على علم منه، أو يرفض حكمًا له سبحانه، أو ينكره، أو يخفي ما أمر الله به، يكفر لا محالة، مهما صلحت سائر أعماله، فمثلاً: أجمعت المذاهب الإسلامية على كفر من ينكر الزكاة وإن كان يقيم الصلاة ويحج البيت...
فيا ترى:
- هل كان الصحابة يعرفون أنهم سيكفرون إن أنكروا ما نص عليه الله ﻷ بخلافة عليا؟
فيأتي الجواب بأنه:
- لا شك في ذلك! فإنهم كانوا على علم تام بقواعد الدين وأصول شريعته، وهم الذين كفَّروا الأعراب الذين أنكروا الزكاة بعد وفاة الرسول ج، وسلّوا سيوفهم في وجوههم، والمعروف أن هؤلاء المرتدين - مانعي الزكاة - كانوا يؤدون الصلاة ويقيمون سائر شعائر الدين.
- إذن على ما افترضناه؛ فهل الصحابة أشد كفرًا أم مشركي مكة في الجاهلية؟!
- والجواب: لا شك أنهم كانوا أشد كفرًا من مشركي مكة؛ لأنهم كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، أي - والعياذ بالله - كانوا أهل نفاق، والمنافق أخبث من الكافر ولهذا جعله الله في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ١٤٥﴾ [النساء:145].
وهنا سؤال يطرح نفسه:
يا ترى؛ متى يظهر النفاق في المجتمعات؟
- والجواب: أن النفاق يظهر إذا قويت شوكة الإسلام وسيطر المسلمون على قواعد الحكم، فمثلاً: في العهد المكي كان الإسلام يرزح تحت نيران الظلم والطغيان، وكان المسلمون ضعافًا لا يقدرون على شيء، فكان جمهور الناس مشركين كفارًا، إلا تلك الفئة المؤمنة، ولم يظهر النفاق هناك لكن يوم أن ظهر الإسلام في المدينة وقامت الحكومة الإسلامية عرف المجتمع لونًا جديدًا من الناس؛ كفار يكرهون الإسلام ويكيدون له ويبطنون حقدًا عليه لكنهم يظهرون الاستسلام التام لدين الله ﻷ، وهم: المنافقون.
وآن لنا أن نتساءل الآن:
- هل كان للإسلام قوة وشوكة في أول عهد أبي بكر الصديق ا؟..
- نستشف الجواب من خلال ما يزعمه علماء الشيعة أنفسهم؛ أنه لم يكن للإسلام قوة وشوكة يومذاك، فهم يقولون: لقد ارتد الصحابة كلهم.
فهل يمكن أن نزعم بعد ذلك أن الصحابة خافوا من علي ا وأربعة أشخاص كانوا معه فنافقوه؟!
ولو كانوا يخافون عليًّا ا لَـمَا تجرؤوا على اغتصاب حقه!
ويجب ألا ننسى أن أوضاع المسلمين الداخلية، وأوضاع الجزيرة العربية بشكل عام كانت متدهورة جدًا يوم أن تولى أبوبكر مقاليد الحكم، وقد ارتدت قبائل الأعراب، فلم يكن لأبي بكر أن ينافقهم!
من جهة أخرى، يزعم علماء الشيعة أنه حضر جمع غفير من الناس في غدير خم، وشهدوا تلك الجلسة المشهودة التي اختار فيها النبي ج عليًّا ا خليفة من بعده، ونص على ذلك. وهم الذين يزعمون بعد ذلك أنه يوم أن اغتصب الصحابة حق علي لم يعارض ولم يدافع عن حقه إلا أربعة أشخاص إلى اثني عشر شخصًا حسب رواياتهم المختلفة:
فإذا كان الأمر على ما يزعمون؛ فإن ذلك يعني أن الجو العام كان يعادي عليًّا ا، فلا نجد دليلًا لبروز ظاهرة النفاق.
زد على ذلك، أن الوضع السياسي العام لم يكن مواتيًا للمسلمين: فقد ظهرت مجموعة من الناس في اليمن وفي سائر أنحاء جزيرة العرب يدعون النبوة، وكان الإسلام في خطر جسيم من أمرهم.
ففي مثل هذه الأوضاع المتدنية - بالنسبة للمسلمين- والظروف المواتية - بالنسبة للأعداء- كان لابد للمنافق أن يستغل الموقف ويقلع شجرة الإسلام من جذورها، ولا سيما إذا كان الحكم بيده، ولا شك أنه لن يفرط في مثل هذه الفرصة الذهبية، لكننا نرى خلاف ذلك تمامًا:
فها هو أبوبكر يفدي دين الرسول محمد ج بماله وروحه.
فبماذا يمكننا أن نفسر ذلك؟!
من هؤلاء الصحابة - الذين يتفوه الشيعة بكفرهم ويرميهم بالردة والزندقة والنفاق - من يقذف نفسه بالمنجنيق وراء أسوار قلعة الكفار، ليسقط على بحر من رماح الأعداء وليستقبل آلافًا من سيوفهم بصدره، عسى أن يفتح الباب لإخوانه من المسلمين، دفاعًا عن هذا الدين المبين، ويكتب الله له بإخلاصه وصدقه مع ربه أن يفتح الباب، وقضى سبعمائة منهم شهداء في تلك المعركة الضروسة والتي شنوها على مسيلمة الكذاب! وغيرها من الوقائع العظيمة والبطولات التي تزخر بها كتب التاريخ وقعت في تلك الأيام القلائل التي حكم فيها أبوبكر الصديق ا.
فيا ليت شعري: من أجبرهم على الدفاع عن دين محمد ج؟!
فإن المنافق لا يتجرأ على الخوض في مثل هذه المواقف، ومن له أدنى صلة بالآيات القرآنية ويؤمن بها - ولو شكليًّا - لا يستطيع أن ينكر أن المنافق لا يتمتع بتلك الجرأة والشجاعة التي تطلبها الشهادة، بل إنه يغتنم أية فرصة للتنكيل بالإسلام والمكر به.
فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ ٨٣﴾ [التوبة:83].
وكلنا نعرف بأن الصحابة الذين يكفرهم الشيعة، هم الذين رافقوا النبي ج في جميع الغزوات وقدموا أرواحهم رخيصة بين يديه ج، وفدوه بأموالهم وأنفسهم وآبائهم وذرياتهم.
وها هو المولى ﻷ يصف المنافقين بغير ذلك تمامًا: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧﴾ [المنافقون:7].
وقد كان أمام أبي بكر عدة خيارات:
هنا أهل المدينة.. وهناك أهل مكة.. والأعراب في كل جانب.. والروم والفرس يرحبون به إن طغى.. ومسيلمة الكذاب:
لكنه مع كل هذه الفرص الذهبية التجأ إلى حضن الإسلام. ليس هذا فحسب؛ بل قاتل الكفار بكل ألوانهم وأشكالهم، وليس هذا فحسب؛ وإنما اقتلع جذور الكفر والشرك من جزيرة العرب. هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد أثبته التاريخ وصدقه، وحتى الشيعة أنفسهم يقرون بأن أبابكر وعمر قدموا للإسلام خدمات جليلة.
وقد ظهر للعيان - بما لا يستطيع أحد إنكاره - أن الصحابة في تلك الأوضاع الصعبة والظروف المستعصية التي عاشتها الفئة المؤمنة والجزيرة العربية، استطاعوا بجدارتهم وحسن تفانيهم وصدقهم مع الله أن ينجوا سفينة الإسلام من بين تلك الأمواج المتلاطمة لترسو على شاطئ الأمان.
وقد سجل لنا القرآن الكريم بكل وضوح أن المنافق لا يساند الإسلام البتة، ليس هذا فحسب، بل إنه إن وجد فرصة للنيل من الإسلام استغلها في القضاء عليه.
وقد أثبتنا أن مثل هذه الفرصة سنحت لأصحاب الرسول ج، ومن هنا لا حالة أننا نصل إلى:
أنه يجب علينا أن نشهد ونقر موقنين، بأن الصحابة لم يكونوا منافقين، وإنما كانوا أبطالاً مجاهدين دافعوا عن حظيرة الإسلام وقدموا أرواحهم رخيصة لله ﻷ، وسطروا على صفحات التاريخ قصصًا من بطولاتهم وشجاعاتهم لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولن يشهد.
هذه حقيقة تاريخية ثابتة لا ينكرها إلا جاحد أو مماحك، ولا يتجاهلها إلا من يعادي الحق المبين...
فبما أن الصحابة لم يرتدوا عن الإسلام، ولم يدخلوا في زمرة المنافقين - كما سبق أن شرحنا وبسطنا الكلام - فلا يمكن أن يتغاضوا عن حكم الله ﻷ في خلافة علي ا بعد الرسولج، أو يتجاهلوه أو يغتصبوها منه.
ومن يزعم ذلك يجب عليه أن يجيب على كل هذه التساؤلات، ويبحث عن حل لكل هذه الأسئلة الحائرة.