هل كانت نساء النبي ص معصومات؟
هذا الموضوع بحد ذاته يثبت أن المخاطبات بتلك الآيات لم يكنَّ معصومات ولا مطهَّرات تكوينيًّا، بل كانت طهارتهنّ مشروطة. كانت طهارة كل واحدة من المخاطبات منوطة بمقدار طاعتها لأوامر الله تعالى، فكل من كانت طاعتها وعبادتها أكثر نالت طهارة أكثر. ونحن لا ندَّعي أن جميع نساء النبي ص كُنَّ على درجة واحدة من طاعة الله، بل كان سهم كل واحدة منهن من الطهارة متناسبًا مع المجاهدة التي قمن بها طلبًا لرضا الله تعالى.
هنا من المناسب أن ننتبه إلى البند 7 من رسالة أخينا في الله، الذي قال على نحو الاستبعاد: «لو كان المقصود من «أهل البيت» نساء النبي ص، لكُنَّ، بموجب هذه الآية، صاحبات مقام عال أرفع من مقام سائر البشر أجمعين، لأن الله أذهب عنهنَّ كل رجس...».
في رأينا إن ابتعاد أخينا الكاتب كثيرًا عن الحقيقة يستند إلى حدٍّ كبير إلى مسائل من قبيل واقعة «الجمل» ونظائرها، والتي خرجت فيها أمُّ المؤمنين عائشة زوجُ رسول الله ص، على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ÷ ونهضت لمحاربته![35] وربما كان ذلك الأمر سببًا في طرح إشكاليّةٍ وسؤال مفاده: لو كانت نساء النبي ص هن المخاطَبات حقيقةً بجملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ....﴾ وهي جملة تجعلهن حائزات لأرفع مقام وأسمى مكانة، فكيف ينسجم هذا مع قيام إحدى نساء النبي - أي عائشة - بشن حرب على شخص لا يخفى على أحد علو درجته ومقامه الرفيع الشاهق في الإسلام؟!
في الإجابة عن هذا الإشكال نقول: لابد من الانتباه إلى حرف «إنْ» في قوله تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ﴾ [الأحزاب: 32] وهذا الحرف من حروف الشرط، وبعد هذه الجملة جاء عدد من الأوامر والمناهي الإلـهية كأمثلة ونماذج للتقوى المطلوبة. إذن تلاحظون أن الله وَعَدَهُنَّ بهذا المقام الرفيع بشكل مشروط، يعني الجملة موضع البحث جملة شرطية ذات جزئين على النحو التالي، وقد ذُكرت فيها جملة جزاء الشرط قبل الجملة الشرطية، وفيما يأتي بيان الجزئين المذكورين:
1- ﴿إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّ﴾ (جملة الشرط)
2- ﴿لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ (جزاء الشرط)
علاوة على ذلك، وكما قلنا سابقًا [36]، جاءت أفعال آية التطهير بصيغة المضارع لا الماضي، بناء عليه، نؤكّد و نكرّر أنه لما كان المقام الرفيع المذكور قد تم بيانه بصورة مشروطة، فلا شك أن براءة كل واحدة من المخاطَبات من الرجس والطهارة منوطة بمقدار طاعتها لأوامر الله تعالى واجتنابها لنواهيه. وكل من أطاعتْ منهن اللهَ وعبدته أكثر نالتْ طهارةً أكثر، واقتربت من المقام الرفيع المذكور أكثر. وإلا فنحن لا ندَّعي أن المخاطَبات بتلك الآيات كلهن على درجة واحدة من طاعة الله، كما لا ندافع عن زوجات النبي صدفاعًا مطلقًا مبنيًّا على التعصب، بل نقول: إن سهم كل واحدة من نساء النبي من الطهارة يتناسب مع تقواها ومجاهداتها في سبيل رضا الله.
بناءً على ذلك، فإننا نُعَدِّل جملة أخينا في الله ونصحِّحها على النحو الآتي: طبقًا لآيات سورة الأحزاب، لو أن نساء رسول الله ص، أدركن موقعهن الحساس والخطير، واتقيْنَ اللهَ حق تقاته، لنلن مقامًا رفيعًا بين نساء العالم، ونلن ثوابًا مضاعفًا. أما لو لم يعملن بما يقتضيه موقعهن الخطير والحساس فإن عقابهن سيكون مضاعفًا كذلك.
بعبارة أخرى، نحن نقول: لقد تعلّقت إرادة الله التشريعية بأن يبتعد أهل بيت النبي ص -وهم النبي ص نفسه وزوجاته وبناته وأصهاره وأحفاده - عن الذنب، ويتطهَّروا منه، من خلال تمسكهم بالطاعات والعبادات، ولمَّا لم تكن هذه الإرادة الإلـهية جبريةً ولا تكوينيةً، فلا يلزم عنها نتيجة واحدة في حق مصاديق أهل بيت النبي ص فردًا فردًا، بل ربما نال بعض المخاطبين بالآية مراتب رفيعة وبقي بعضهم الآخر في مراتب أدنى.
[35]- كما هو معلوم أن خروج أم المؤمنين السيدة عائشة ل إلى البصرة لم يكن لمقاتلة عليٍّ سأو النكوث عن بيعته، وإنما للإصلاح بين المسلمين ومعاقبة المفسدين الذين قتلوا عثمانس. وقد ظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها وتقول: «والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة»، وكانت رضي الله عنها تبكي كلما تتذكر أحداث يوم الجمل. يقول ابن العربي/: «وأما خروجها - رضي الله عنها - إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها، ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستحياء منها، إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت ممتثلة لأمر الله - عز وجل - في قوله: ﴿لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ١١٤﴾ [النساء: ١١٤]، والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد». وحسب حقائق التاريخ وشواهد الواقع أنه اتفق علي وطلحة والزبير وعائشةش على الصلح وتم التفرق على الرضا بذلك قبل موقعة الجمل، فخاف قتلة عثمانس من التمكن منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا ثم اتفقت آراؤهم على أن يندسوا في المعسكرين ويختلطوا، وأن يصيح الفريق الذي في معسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في معسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما أرادوا ودبروا، ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم دافعا لمكروه عن نفسه، ومانعا من إشاطة دمه. وهكذا وقعت موقعة الجمل بفعل قتلة عثمانس وخبث السبئية وما دبروه وكادوه للفريقين. يقول ابن حزم/: «فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه، ولا نقضا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمانس ظلمًا». فخروج السيدة عائشة ل كان من أجل الإصلاح بين الناس، وليس في هذا تعارض مع الآية الكريمة: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، إذ إن معناها: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ولا يخفى على أحد أن الإصلاح في هذا الوقت كان من أهم الضرورات والحاجات، وبذا لا يصح الاستدلال بهذه الآية على هذه الواقعة، فهي لم تعمل خلاف هذه الآية الكريمة. بل هی كانت مجتهدة في ذلك ورأت أن الصواب هو الخروج للإصلاح بين المسلمين، وكما هو معلوم أن المجتهد إذا اجتهد وأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. انظر تفصيل ذلك في كتاب: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، (دار السلام، مصر، ط2، 1428هـ/2007م)، ص435 وما بعدها. وكتاب أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، للدكتور علي محمد الصلابي، (دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م)، ص487. [المصحح] [36]- راجع الصفحة 27 من هذا الكتاب.