قصة سيدنا إبراهيم وتوضيح «أهل البيت»
نزل القرآن الكريم بلغة العرب أي بلغة عربية فصيحة[9]. وقد راعى القرآن هذه القاعدة على الدوام. ومن ذلك أنه عندما تأتي الملائكة إلى منزل إبراهيم ÷، وتُبَشِّره بابن له، وتتعجَّب زوجة إبراهيم من ذلك وتضحك، تجيبها الملائكة قائلةً:
﴿قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود: 73]
كما نلاحظ، رغم أن مُخاطَب كلام الملائكة في بداية الآية هو امرأة واحدة (سارة زوجة إبراهيم)، ولكن نظرًا لكون حضرة إبراهيم ÷ من أهل البيت المُشار إليه ذاته، تم استخدام ضمير جمع المذكر في نهاية الآية، وقالت الملائكة: ﴿عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾، إذَنْ، فامرأة المنزل يمكن أن تكون أهل البيت.
ويُشاهَدُ هذا الموضوع عينه في سورة الأحزاب، أي أن الآية تبتدئ بمخاطبة نساء النبيص: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ﴾، وحتى أنه في صدر الآية 33 جاءت الضمائر جميعها بصيغة جمع المؤنث، ولكن عند الكلام عن «أَهْل البَيْتِ» (= أهل هذا البيت)، حيث كان النبي ص أيضًا من أهل هذا البيت بل هو صاحب هذا البيت، بل إن الآخرين إنما ذُكِروا بوصفهم أهل البيت باعتبار ارتباطهم وانتمائهم إلى حضرته ص، تم استخدام ضمير الجمع المذكر.
وقد ذُكر في كتب التفسير أيضًا أن خطابات القرآن مثل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ و﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ﴾ ونظائرها ليست مختصة بالرجال فقط ولا منحصرة بهم، بل تشمل النساء أيضًا ولكن الضمائر فيها جاءت مذكرة مراعاةً لقاعدة التغليب.
لكن أخانا في الله قال كلامًا عجيبًا جدًّا، فقد اعتبر في الفقرة الثالثة من رسالته أن الآية 73 من سورة هود تنطوي على إبهام وإشكال أكثر من الإبهام الذي في آية التطهير؟!! وقال: في هذه الآية أيضًا - يعني آية سورة هود - ثمَّة سؤالٌ يطرح نفسه وهو: من هم أهل البيت؟!
لذا ينبغي أن نمرّ هنا مرورًا إجماليًّا على الآية المذكورة من سورة هود:
طبقًا لما جاء في القرآن الكريم، جاءت الملائكة إلى إبراهيم÷ ليبُشره. في البداية لم يعرف إبراهيم÷ حقيقة الزوَّار وظن أنهم بشرٌ وقام بتقديم لحم عجل مشوي لهم، فلما رأى إبراهيم÷ أنَّ أيديهم لا تَصِل إلى العجل الذي أتاهم به ولا يأكلون منه، أحس في نفسه خيفةً منهم وظنَّ أنهم يريدون به سوءًا، فقالت الملائكة - لما رأت ما بإبراهيم من الخوف-: لا تَخَفْ إنا ملائكة ربك، وقد أُرسلنا إلى قوم لوط لإنزال العذاب بهم [وإهلاكهم]:
﴿إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٧٠[10]﴾ [هود: 70]
ثم قال القرآن:
﴿وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ ٧١ قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ ٧٢ قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣﴾ [هود: 71 - 73]
لو تأمَّلْنا هذه الآيات دون التأثُّر بأحكام مسبقة، لرأينا أن الملائكة أجابت امرأةَ إبراهيم على ما أبدته من تعجُّب، ولهذا السبب تمَّ استخدام الفعل بصيغة المفرد المؤنَّث المُخاطَب (أَتَعۡجَبِينَ). فإن قيل: طالما أن امرأة إبراهيم هي المقصودة بالخطاب فلماذا أطلق عليها في وسط الكلام لقب أهل البيت؟ هنا نلفت انتباهكم إلى نقطة مهمة وهي أنه في بداية الكلام، كان الكلام موجَّهًا لامرأة واحدة معيَّنة، ولكن لما كانت تلك المرأة متعلقة بإبراهيم ÷ ومنتمية له، وكان إبراهيم أيضًا يعيش في ذلك البيت وهو عضوٌ من الأسرة التي تعيش فيه، لذا لما اتَّجه الخطاب إلى كليهما استُخْدِمَ ضميرُ جمع المذكَّر. في الحقيقة تقول الآية: لماذا تتعجَّبين؟ ألا تعلمين أنك عضو في بيت يتمتع برحمة الله تعالى وبركاته؟ ولما كانت تلك الرحمة الإلـهية والبركات تتعلق أيضًا بإبراهيم ÷ وبزوجته كذلك، - بل هي تتعلق بإبراهيم ÷ بالدرجة الأولى، ثم بالدرجة التالية تتعلق ببقية أعضاء الأسرة - لذا كان لابد أن يأتي الضمير مُذَكَّرًا، ولما كانت الرحمة والبركات عناية إلـهية بإبراهيم ÷ أيضًا لذا جاءت العبارة بصيغة: ﴿عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾، مع أن القرآن كان بإمكانه أن يقول: «أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيْكِ»، أي كان بامكانه أن لا يستخدم عبارة «عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ»، وبإمكانه أيضًا أن يستخدم ضمير المفرد المؤنَّث المخاطَب، ولكنه لم يفعل ذلك، لماذا لم يفعل ذلك؟ السبب هو -كما ذكرنا آنفًا- وجود العناية الإلـهية بإبراهيم ÷، وارتباط تلك المرأة بإبراهيم÷، وَمِنْ ثَمَّ فرحمة الله وبركاته نازلة بالدرجة الأولى على إبراهيم ÷، ونازلة تبعًا لذلك على أقربائه[11].
ومسألتنا في سورة الأحزاب هي على هذا النحو تمامًا، فالهدف هو «التطهير والأسوة والقدوة للآخرين»؛ وهذا التطهير وهذه الأسوة مطلوبة بالدرجة الأولى من النبي ص ومطلوبة بالمرتبة التالية ممن يرتبطون به ولديهم مجالسة وتعلق به أكثر من الآخرين. بناء على ذلك، لما كان النبيُّ الأكرم ص مقصودًا أيضًا للوصول إلى ذلك الهدف المطلوب، وكان الآخرون (نساؤه) مشمولين بهذه الإرادة والمطالبة باعتبار مرتبة الارتباط بالنبي ص والتعلق به، فجاء الضمير مذكَّرًا. (انتبهوا وتأمَّلوا).
[9]- كما قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ﴾ [إبراهيم: 4] وقال كذلك: ﴿وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ ١٠٣﴾ [النحل: 103] [10]- علمًا أن لوط ÷ كان ابن أخ أو ابن أخت إبراهيم ÷، كما كان من أتباع إبراهيم وأنصاره، وكان ممثلاً لإبراهيم و مبلِّغًا لرسالته بين قومه. [11]- حول الآية 73 من سورة هود، من المفيد الرجوع إلى تفسير «الكشاف» للزمخشري، الذي قال: «وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: ﴿أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ﴾ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهي النساء الناشئآت في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: ﴿رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ﴾ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصّكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب». انتهى.