تفصيل مسألة العصمة
بما أننا وعدنا أثناء الكلام عن الموضوعات السابقة، بالحديث بشكل أكثر تفصيلاً عن مسألة «العصمة»[44] فها قد حان الوقت لبحث هذا الموضوع، ونبدأ البحث بنقل كلام أحد الكُتَّاب حول مسألة «العصمة» ثم نحلل كلامه.
قال الكاتب:
«لا شك أن العصمة تعني استحالة صدور الذنب والمعصية عن المعصوم، وهذه الاستحالة ناشئة من التربية الخاصة ونمو قوة الإرادة وتعاظمها، واشتداد السيطرة على النفس، إضافةً إلى تأييد الله تعالى لعبده ومدده له، إلى الحد الذي يجعل صدور الذنب ومعصية الله، مع وجود كل تلك القوى التكاملية، أمرًا محالاً. بناء على ذلك، ليس معنى «العصمة» زوال الإرادة والاختيار عن الإنسان، بل معنى «العصمة» تصاعد قوة الإرادة وتكاملها إلى الحد الذي يصبح فيه صدور الذنب عن المعصوم وعصيانه الله واتباعه هوى نفسه أمرًا مستحيلاً.
ولمزيد من التوضيح لمعنى «العصمة»، نضرب المثال الآتي:
إن كل واحد منا يتمتع بمقدارٍ ما من «العصمة»، إلا أن مجال «العصمة» يختلف من فردٍ لآخر بحسب درجة كماله المعنوي، أي أنه كلما زادت نسبة التربية وتهذيب النفس وقويت الإرادة أكثر وازدادت القدرة على مخالفة هوى النفس والسيطرة على الرغبات والنزعات والتحكم التام فيها، اتسعت دائرة «العصمة».
مثال حول مسألة العصمة:
مثلاً لا يمكن تصور إقدام الأم على قتل ابنها بيدها، مهما غضبت من ابنها وسخطت عليه. وهذا المقدار من العصمة موجود لدى معظم - إن لم يكن جميع - الأمهات، ونستثني من ذلك بعض الحالات النادرة جدًّا لقتل بعض الأمهات لأولادهن.
إن سبب ذلك النوع من عصمة الأمهات هو الإرادة التكوينية لله عَزَّ وَجَلَّ التي تجلَّت في قلب الأم وجعلت الأم رحيمةً بأبنائها وعطوفةً بهم، ولكن هذه الرحمة والشفقة والعاطفة التكوينية لا تؤدي إلى محو الإرادة والاختيار عن الأم، ولا تجعل تلك الرحمة والعطف التكوينيين يصدران عن الأم على نحو غير إرادي وغير اختياري. كذلك يستحيل أن يقدم أكثر الناس على القتل العمد لأجل اختلافات ونزاعات جزئية جدًّا.... في حين أن الأفراد المجرمين لا يتمتعون بمثل هذه العصمة الفطرية، ولكن عامة الناس وغالبيتهم الساحقة يستحيل أن يقدموا على قتل إنسان عمدًا لسبب تافه وجزئيٍّ بسيط.
وإذا صعدنا درجة أعلى في سلم التكامل البشري هذا رأينا أن هناك مجموعة كبيرة من الناس تعيش في مستوى أعلى وأرفع من التكامل والإحساس والسلوك الإنساني، ومثل هؤلاء الأفراد يستحيل أن يظلموا الآخرين، كأن يقطعوا رزق الناس ويسرقوا أموالهم، أو يحاربوهم أو يرموهم في السجن بسبب اختلافهم معهم في العقيدة والرأي أو يقتلوهم أو يعذبوهم، في حين أن هناك أفراداً آخرين لم يصلوا إلى هذا المستوى من التكامل الإنساني فهم يقتلون الآخرين بكل سهولة، ويعذبونهم ويهلكون الحرث والنسل (أموال الناس وأرواحهم) في المجتمع ويفسدون في الأرض[45].
بناءً على ذلك، هذه المرحلة من العصمة أعلى درجة من المرحلة السابقة، ودائرتها أوسع من دائرة المرحلة الأولى، ولا شك أن هذه المرحلة من عصمة الإنسان العالية، ناجمة عن تربيةٍ إنسانيةٍ قويةٍ، وهي حصيلة ليقظةٍ ووعيٍ للوجدان ونتيجة لسلامة النفس وتهذيبها.
وإذا صعدنا درجات أكثر في سلم التكامل الإنساني، رأينا أشخاصًا يستحيل أن يصدر منهم كلام قبيح ضد الآخرين، وهذا حصيلة لمراحل عالية من السلوك والتربية الرفيعة والرقيّ الروحيّ وتهذيب النفس والتكامل الأخلاقي للإنسان، وفي الوقت ذاته يبقى مثل هؤلاء الأفراد أصحاب إرادة واختيار حر (ولا يكونون مجبرين).
ونصعد أيضًا في سلم التكامل الإنساني فنرى مجموعة من الناس أعطاهم الله حظًّا عظيمًا من الدين وهيأ لهم أرضية تربوية عظيمة وأنعم عليهم بعنايته الخاصة وحمايته، لذا يستحيل أن يصدر من مثل هؤلاء الأفراد أدنى إضرار بالآخرين ولو على مستوى الكلمة والإشارة والنية السيئة أو الغيبة والتهمة، ومثل هؤلاء الأفراد وإن كان عددهم في المجتمع البشري قليل جدًّا إلا أنهم موجودون فعلاً، ولا تخلو المجتمعات البشرية من أفراد قلائل يستحيل أن يصدر عنهم أدنى أذى أو إضرار مادي أو معنوي بالناس، وكما قلنا، في المراحل الأدنى من هذا المستوى، يمتنع أكثرية الناس عن ارتكاب القتل والجرائم المختلفة لأسباب بسيطة وخلافات تافهة.
ولا شك أنه كلما صعد الإنسان في سلم التكامل، وصل إلى مراحل ودرجات روحية ومعنوية أعلى وأسمى، وبدأ يطوي مراحل «العصمة»؛ وكلما قطع مرحلةً ودرجةً من التكامل، استحال عليه أن يتجه إلى الرِّجْس والآثام والتعدِّي والظلم، وبالطبع فإن المدد الإلهي والعون الرباني سيشمله في هذا الطريق، وسينال الألطاف الإلهية ببركة مجاهداته وسيره وسلوكه، وسيتمتع بدرجات أكثر من تهذيب النفس والسيطرة عليها، ولكن من البديهي في الوقت ذاته أنه مهما ارتقى الإنسان في درجات الكمال الروحي والنفسي ومهما وصل إلى درجات العصمة فإن حرية الاختيار لا تُسلب منه، أي أنه يبقى قادرًا على الظلم والذنب لأن الغرائز السلبية موجودة قهرًا وتكوينًا في نفس الإنسان، وكبح هذه الغرائز السلبية والرذائل الأخلاقية في مراحل التكامل المختلفة يرتبط بإرادة الإنسان واختياره الحر، كما أن إرادة الإنسان وتكامله، والألطاف الإلهية والعنايات الربانية مُقَدَّمَة بالطبع على كل تلك الأمور.
لا شك أن عناية الله الخاصة بالإنسان وتأييده له بألطافه الخاصة، من أهم أسباب قوة إرادة الإنسان وسيطرته وتحكمه بشكل كامل في سلوكه، وبُعْده عن الضلال والفساد، كما أنه لا شك أن عناية الله تعالى بعبدٍ من عبيده – شأنها في ذلك شأن سائر السنن الإلهية- تتبع كمًّا وكيفًا قواعد دقيقة وقوانين لطيفة جدًّا، أي كلما جاهد الإنسان نفسه أكثر حظي بنصيب أوفر من عناية الله به وتأييده له وتوفيقه إياه، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩﴾ [العنكبوت: 69]
إذن العصمة واستحالة صدور الذنب والمعصية من العبد لا تعنيان انمحاء الإرادة وزوال الاختيار الإنساني الحر بل معناها تنامي قوة الإرادة إلى درجة تصبح فيها أقوى من النزعات النفسية فلا تخضع إرادة مثل هذا الإنسان بعد ذلك للنفس الأمارة ولا تتجه أبدًا إلى الضلال والفساد.
إذا استطعنا توضيح مجال العصمة وتصويره، أدركنا أنه مهما اتسعت دائرة العصمة فإنها لا تتنافى مع الإرادة والاختيار الحر، وعلى ضوء مثل هذه التعبيرات يمكننا أن نتصور عصمة الأنبياء والأئمة المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين - التي هي أعلى من كل ما سبق وأكثر اتساعًا وشمولاً، على نحو يستحيل معه أن يصدر من أولئك الحضرات أي ظلم أو خطأ أو معصية، مع احتفاظهم بحرية الإرادة والاختيار، ودون أن يخضعوا أبدًا لغرائزهم البشرية ونزعاتهم النفسانية.
عناية الله وألطافه الخاصة بعباده الصالحين من أهل البيت:
الآن، على ضوء التوضيحات السابقة، لم يعد من الصعب علينا أن نفهم «الإرادة التكوينية» لله تعالى في الآية الكريمة، بأنها عبارة عن المدد والفيض والتأييد واللطف الإلهي بحق عباده الصالحين من أهل البيت -عليهم السلام- بصورة تكوينية بالقدرة الإلهية القادرة، على نحو، يغدو فيه صدور الذنب والعصيان عن أولئك الحضرات مُحالاً مع وجود الإرادة والاختيار لديهم.
ونؤكد أن هذا التأييد الإلهي لا يستتبع سلب الإرادة والاختيار عنهم، لأن هذا التأييد في الواقع معناه رفع درجات كمال الإرادة لديهم وتقويتها كي يسيطروا على نفوسهم بالعون الإلهي إلى درجة يصبح معها صدور الذنب عنهم مُحالاً»[46].
[44]. لاشك أن «العصمة» بمعنى «عدم السهو أو النسيان في إبلاغ آيات الله وأحكام الشريعة» أمرٌ يؤيده القرآن، ولا مخالف له، لحسن الحظ، بين المسلمين، فالعصمة بهذا المعنى خارجة عن موضوع بحثنا. [45]. لا يخلو كلام المؤلف هنا من خلل، فمن الواضح أن مثل هؤلاء الأفراد لم يكونوا كذلك منذ طفولتهم بل وصلوا إلى مثل هذه الحالة النفسية بالتدريج وبعد طيِّ مراحل بعيدة عن الحالة الإنسانية العادية. [46]- پژوهشى در آيهى تطهير، مصونيت تكوينى رهبران عقيدتى اسلام [بحث في آية التطهير، العصمة التكوينية لأئمة الإسلام]، تحقيق وتأليف الأستاذ محمد مهدي آصفي، ترجمه للفارسية الدكتور محمود رضا افتخار زاده، مكتب نشر المعارف الإسلامية، قم، ص.ب 573، ص 79 فما بعد.