المشكلات التي سنواجهها لو اعتبرنا الإرادة الإلهية في آية التطهير إرادة تكوينية
يجب أن نعلم أننا لو اعتبرنا أن الإرادة في آية التطهير إرادة تكوينية فإننا سنواجه إشكالات ومعضلات عديدة نشير فيما يأتي إلى بعضها:
المشكلة الأولى: «الإرادة التكوينية» هنا تستلزم الجبر وهو ما لا يتفق مع عقائد الشيعة، فعندما نقول: إن الله أراد بإرادته التكوينية المطلقة غير المشروطة والتي لا يمكن للمراد بها إلا أن يتحقق ولا يمكنه أن يتخلف أبدًا، أراد أن يكون مخاطبوه بآية التطهير معصومين لا يقع منهم الخطأ ولا الإثم، ففي هذه الحالة ستنتفي كل الإمكانات الأخرى في مقابل هذه الإرادة التكوينية لله عَزَّ وَجَلَّ وتنعدم، وبالطبع لن يستطيع المخاطبون في الآية أن يذنبوا ولا أن يقعوا في الخطأ لأن ذلك يخالف الإرادة التكوينية لله عز وجل، لذلك فهؤلاء المعصومون بالإرادة التكوينية القاهرة لن يكون لديهم حرية الاختيار، بل سيكونون مجبورين على عدم ارتكاب الذنب، وهذا ليس فضيلة في حقهم، وهنا نسأل: هل كان علي والحسنان-عليهم السلام- مُكلَّفين أم لا؟ هل كان أولئك السادة الكرام مُختارين أم مُجبرين؟ بناءً على مذهب الشيعة، يُعتبر أولئك الأئمة مخيرين وأنهم اجتنبوا كل إثم وذنب باختيارهم الحرّ. ولكن لو اعتبرنا الإرادة في آية التطهير إرادة تكوينية فإن المخاطبين بالآية- أيًّا كانوا- سيكونون مجبرين على عدم ارتكاب الذنب ومقهورين على الطهارة، ونتيجة لذلك لن يكونوا مُكلَّفين ولن يكون لهم أي فضيلة في عدم الذنب.
إضافةً إلى ذلك، عندما يكون أولئك السادةُ أطهارًا منزهين من الإثم والخطأ بإرادة الله التكوينية القاهرة المجبرة، لا يمكنهم أن يكونوا أسوةً ولا قدوةً لنا، لأننا مختارون ومُكلَّفون، بعكس الإمام الحسن ÷ مثلاً الذي أصبح تكوينيًّا وخَلْقًا وبإرادة الله الغالبة الآمرة طاهرًا نقيًّا مبرءًا من كل ذنب وخطأ، ومن البديهي أن مثل هؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا أئمة لنا ولا يمكنهم أن يمارسوا الإمامة، لأن الإمام والقائد الديني هو الشخص الذي علينا أن نتبعه ونقتدي بأعماله وبسلوكه، وهنا أعمال هذا الإمام وسلوكه تتم طبقًا للإرادة الإلهية القطعية التي لا تتخلّف، ونحن مختارون، فليس بيننا وبين أولئك المعصومين أي تشابه، ومن ثم لا يمكنهم أن يكونوا أسوةً وقدوةً ونبراسًا لنا!
فإن قيل: إن المخاطبين بآية التطهير أصبحوا، بناء على «الإرادة التكوينية» لله عَزَّ وَجَلَّ، على نحو يجعلهم يبتعدون عن الذنب ويجتنبون الخطأ بإرادتهم الحرة واختيارهم، أي أن الإرادة الإلهية تعلقت بجعلهم معصومين باختيارهم!!
نقول: علينا أن نلفت انتباهكم إلى النقاط التالية:أولاً: هذا الادعاء ليس له أي مصداق في موارد السهو والخطأ والنسيان التي تدل بعض آيات القرآن على وقوعها من النبي ص كقوله تعالى: ﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾[29] [الكهف: 24]، أو قوله: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 43]، وأمثال هذه الآيات، إذْ لا أحدَ يختار السهو والنسيان!!
ثانيًا: عندما يتعلق هذا الادعاء بالذنب لن يكون سوى تلاعب بالألفاظ! ولو دققنا بإنصاف في المسألة لرأينا أن نتيجة هذا الكلام سيشملها الإشكال الذي طرحناه، لأن «الإرادة التكوينية» إرادة قطعية لا تقبل التخلُّف ولا تأثير مطلقًا لاختيار الشخص في قطعية الإرادة الإلهية وحتميتها. وبعبارة أخرى، فإن اختيار المكلف لن يقع بين «الإرادة» و«المراد الإلهي»، ومن ثم فـ«الاختيار» يصبح كأن لم يكن (لا يوجد له مكانة ثابتة) فكأن صاحبه غير مختار، لاسيما طبقًا لقولكم بأن مثل هذه الإرادة الإلهية التكوينية تحققت بحق الحسنَين -عليهما السلام- في زمن الطفولة، وأنهما لم يبذلا أي مجاهدة للوصول إلى هذا المقام.
تلاحظون أنه حتى على الفرض المذكورة أعلاه، لن تكون هناك فضيلة للمطهَّرين لأنه –كما قلنا- لو أراد الله مثل هذه الإرادة في حق الآخرين، لنالوا هم أيضًا مثل هذا المقام والحالة والمرتبة، لأن هذه المرتبة من السموّ الروحي المستوجبة للعصمة – وعلى حد قولكم لم تُعطَ إلا للنبي ص والأئمة على وجه الحصر وعلى نحو غير اختياري – لم تُعطَ للآخرين، ومن ثم فإن هذا التفاوت يمنع أولئك المطهَّرين من أن يكونوا أسوةً وقدوةً للأفراد الذين لم يحظوا مثلهم بتلك الإرادة، ولا نالوا مثل ذلك الإمداد[30].
المشكلة الثانية: المسألة الثانية هي عدم الترابط بين ما قبل الآية وما بعدها، بل عدم ترابط صدر الآية وذيلها. وقد قال بعض علماء الشيعة -للأسف- إن موضع هذه الآية، أي جملة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ....﴾ [الأحزاب: 33] لم يكن في الأساس هذا المكان الذي توجد فيه الآن، بل تم نقلها إليه من مكان آخر!![31] دون أن يبيِّنوا لنا بالطبع أين كان الموضع الأصلي لهذه الآية!
على كل حال، هنا لا شأن لنا بأصحاب هذا القول، ولكننا نقول لمن لا يؤمنون بمثل هذا الأمر، ويؤمنون بصحة النظم والترتيب الحالي للقرآن: إن الله تعالى صرح لنا بأن تعاليم الأنبياء إنما تأتي إلى الناس باللغة واللسان الذي يتكلمون به ويفهمونه، قال تعالى:
﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡ﴾ [إبراهيم: 4].
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نسأل: هل تكلم أي عربي بكلام لا علاقة لبدايته بنهايته؟! وأنت الذي تقول: إن الله يكلِّم عباده كلامًا منطقيًا (أو على حد قولك: كلامًا حكيمًا)، لماذا تتجاهل هذا الإشكال الواضح وهو أننا لو أردنا أن نعتبر الإرادة في آية التطهير «إرادة تكوينية» وأن نعتبر الخطاب فيها موجهًا إلى غير نساء النبي ص فإن الارتباط والتواصل بين بداية الآية ونهايتها من جهة، وبين الآيات التي قبلها والتي بعدها من الجهة الأخرى، سينقطع، وسيزول التناسب بين أجزاء الكلام. فمن جهة أنت تقول: إن الله يتكلَّم كلامًا منطقيًّا معقولاً، ولكن رغم أنك تعلم بأن التكلم بكلام غير مترابط الأجزاء ليس أسلوبًا معقولاً ولا منطقيًّا (وفي نظرنا ليس حكيمًا أيضًا) إلا أنك من الجهة الأخرى لا تأخذ بعين الاعتبار انسجام أجزاء الكلام وارتباط الآيات بعضها ببعض، فكيف يمكن للكلام أن يكون كلامًا غير مترابط الأجزاء، وفي الوقت ذاته يكون كلامًا منطقيًّا (أو حكيمًا)؟!
المشكلة الثالثة: وهي أن ننتبه إلى أن الله تعالى قال في سورة الأحزاب ذاتها، مخاطبًا نبيهص: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 59].
وقصدنا من الاستشهاد بهذه الآية أن نبيِّن أن القرآن الكريم جعل «بنات» النبي ص غير «أزواج» النبي ص، بناءً عليه، فعندما يقول تعالى في الآيات 30 و33 من سورة الأحزاب هذه: (يا نساء النبي) ولا يأتِ بلفظ (بنات)، يتبين من ذلك أن نساء رسول الله ص كن المخاطبات الأصليات الأوائل بهذه الآيات، لاسيما أنه في زمن نزول آية التطهير، كانت حضرة الزهراء-عليها السلام- زوجة حضرة علي ÷ ومقيمةً في بيته أي كانت من أهل بيت علي ÷.
[29]- إشارات أخرى في كلام الله المجيد تدل على حدوث النسيان من سائر الأنبياء، من ذلك سيدنا موسى÷. انظر: سورة الكهف:61 -73. [30]- سوف نتعرض لمسألة العصمة لاحقًا أيضًا. راجع صفحة 91 من هذا الكتاب. [31]- بالطبع لا يقول علماء الشيعة هذا القول لأكثرية الناس، لأن مؤداه أن القرآن تعرض للتحريف والتغيير وأن نظمه وترتيبه الحاليين يختلفان عن نظم وترتيب آياته الأصليين!! ونتيجة هذا القول أن الوثيقة الأصلية للدين ستكون مخدوشة ومن ثم فإن أصل الديانة الإسلامية وأساسها سيسقط عن الحجّيّة والاعتبار!! راجع صفحة 77 من هذا الكتاب.