الإشكالات الواردة فيما كتبه الكاتب في رسالته:
إن استحالة اختيار الذنب واستحالة الوقوع في الخطأ، عبارة أخرى عن عدم الاختيار، لأن الاختيار معناه: «عدم استحالة كل جانبٍ من جانبي الاختيار المتباينين، للمكلف»؛ فإذا كان أحد طرفي الخيار مُحالاً، فإن اختيار المكلف سيصبح لا معنى له!
وفي رأيي إن كل ما فعله الكاتب المحترم هو التلاعب بالألفاظ لا أكثر، ولم يحل الإشكال، وكلامه ينطوي على عدة إشكالات نشير إلى بعضها فيما يأتي:
أولًا: إن مثال غريزة الأمومة الذي أتى به الكاتب المحترم حول «العصمة»، يتعلق بأمر غريزي غير اختياري، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى تمرين ولا إلى ممارسة ولا إلى عمل بالأحكام التربوية، كما لا يحصل بشكل تدريجي، وفي الواقع لا تختاره الأم، أي ليس الأمر أن بعض الأمهات يقمن باختيار غريزة الأمومة، وبعض الأمهات الأخريات لا يخترن تلك الغريزة (!!)، وبعبارة أخرى هذه الغريزة، كما اعترف المؤلف المحترم نفسه أيضًا، أوجدتها الإرادة التكوينية الإلهية في الأمهات ولكن ليس على نحو عدم إمكانية التخلّف عنها مطلقًا وبنسبة 100%، ولهذا نجد أحيانًا حالات [ولو نادرة]- من التخلف عن هذه الغريزة، ولو جعل الله هذه الغريزة أقوى مما هي عليه الآن وأودعها في الأمهات على نحو غير قابل بل للتخلف عنه، لما شوهد أي تخلف عنه مطلقًا.
والأهم من ذلك هو أنه كلما كانت الصفات التكوينية وغير الاختيارية أشد وأقوى، فَقَدَ صاحبُها فضيلةَ امتلاكها بالمقدار والنسبة ذاتها، فمثلاً لا يعتبر أحد صاحب فضيلة ومستحقًا للتحسين والثواب لأنه لا يقوم بحرق نفسه بالنار(!) أو لأنه لا يقتل نفسه، وذلك لأن حب النفس ليس أمرًا اختياريًّا يمكن للإنسان أن يكتسبه تدريجيًّا بالمجاهدات، لذا فإذا عمل الإنسان بمقتضى هذه الغريزة لا يكون قد أنجز شيئًا عظيمًا، لهذا السبب ليس هناك حاجة في مثل هذه الموارد إلى مربٍّ أو أسوة ومقتدى، ولم يعتبر أحد حتى اليوم أئمة الدين أسوةً ونبراسًا للمؤمنين في مثل هذه الأمور، بل هم أسوة وقدوة للمؤمنين في الأمور التي تحتاج إلى تربية وجهاد للنفس وتهذيب لها.
وموضوع بحثنا أيضًا هو في موارد هي حصيلة – على حد قولكم- لتربية إنسانية قوية، وليقظة كاملة للوجدان ولسلامة النفس وتهذيبها، وكلما جاهد الإنسان نفسه أكثر نال نصيبًا أوفر من التأييد الإلهي، ولذلك نرى أن الله تعالى جعل هداية العباد منوطة ومشروطة بمجاهداتهم، كما نصت عليه الآية 69 من سورة العنكبوت التي استشهد الكاتب بها.
إن التربية، كما تعلمون، تعني العمل بقوانين الشرع (أي أوامره ونواهيه) الناشئة من إرادة الله التشريعية والالتزام بمقتضاها والتي يؤدي العمل بها إلى علوّ الإنسان الروحيّ، في حين أنكم تعتقدون أن هذه المرتبة من العلوّ الروحي التي تُوجِد العصمة لصاحبها وتجعله محفوظًا ومُصَانًا من وقوعه في الخطأ والنسيان والذنب، لم تحصل نتيجة للاختيار واجتياز مراحل التربية والتعليم، كما أنه لا يمكن لسائر الناس أن يحصلوا على مثل هذه المرتبة الروحية، لأنها مرتبة وُجِدَت على وجه الحصر لأفراد محدودين ومعدودين فقط لا غير (أربعة عشر نفرًا) بإرادة إلهية تكوينية.
ثانيًا: الأمور التي ذكرها الكاتب تتعلق على أكثر حدّ بالذنب ولا علاقة لها بالخطأ والنسيان، في حين أنكم تعتبرون أن العصمة تشمل عدم الذنب وعدم الوقوع في النسيان أو السهو أو الخطأ، وهذا الأمر الأخير لا علاقة له بجهاد النفس ولا بالتربية الروحية ومعرفة عواقب الذنب والنفور منه، أضف إلى ذلك أن ما ذكرتموه حول التربية النفسية والعلو الروحي يحتاج إلى مرور الزمن، [واجتياز مراحل مختلفة] في حين أنكم تعتبرون الإمام معصومًا عن الذنب ومحفوظًا من الخطأ والنسيان والسهو أيضًا، وهذه الحالة النادرة الفريدة للأئمة ليست ناجمةً عن التربية والمجاهدات.
مثلاً أنتم تعتبرون حضرات الحسنين – اللذَين كانا طفلين صغيرين عند نزول آية التطهير- أو الإمام الجواد ÷ الذي ولي الإمامة طفلاً، تعتبرونهم منذ سن الطفولة والصغر علماء بحقائق الشريعة ومعصومين ومحفوظين من السهو والنسيان في جميع شؤون الحياة!
بناءً على ذلك، وكما قلنا، مثل هؤلاء المعصومين على هذا النحو لا يمكن أن يكونوا أسوةً وقدوةً لمن لا يتمتعون مثلهم بتلك العصمة والحفظ الإلهي الخاص، وممن لا تشملهم الإرادة التكوينية والتأييد الإلهي واللطف الرباني الخاص إلى ذلك الحد الذي يتمتع به الأئمة.
وليت شعري! كيف يمكن لمن قويت إرادتهم بفضل إرادة اللهِ عَزَّ وَجَلَّ التكوينيةِ ووصلوا إلى درجة الكمال، أن يكونوا قدوةً وأسوةً لمن لا تتمتَّع إرادته بمثل هذا التأييد الرباني الخاص والعون الإلهي؟!
لاحظوا أننا لا نبحث هنا عن المعنى المراد من «العصمة»، ولا في أن الذين يتمتعون بمثل هذه «العصمة»، هل يبقى لديهم اختيار للأفعال وحرية إرادة أم لا؟ لأن وجود الاختيار أو عدمه لا يؤثِّران في بحثنا، لأنه حسب فرضكم، صار أولئك المعصومون إلى ما صاروا إليه بواسطة الإرادة التكوينية لله تعالى وبفضل التأييد الإلهي لهم وعناية الله الخاصة بهم، فأصبحوا يختارون على الدوام الخير وكل ما هو أصلح وأصبحوا لا يصابون أبدًا بالسهو ولا يقعون في النسيان مطلقًا!
في رأينا إن كاتب ذلك الكلام حول معنى الإرادة التكوينية قد غفل عن معنى «الإرادة التكوينية» أو تغافل عن معناها، لأنه كما هو معلوم لا يوجد هناك أي مانع أو تأخير بين إرادة الله التكوينية وتحقق مراد الله، فلا يخلو الأمر من حالتين:
إما أن للإرادة الإلهية التكوينية تأثير في امتلاك الأفراد لمثل هذه الحالة أو لا تأثير لها في ذلك، الحالة الثانية مردودة قطعًا، والحالة الأولى تُوجد فيها المشكلة ذاتها التي ذكرناها أي: أولاً: هذه الإرادة التكوينية لا تشمل جميع المؤمنين بل منحصرة بأربعة عشر نفرًا فقط، وثانيًا: في مثل هذه الحالة، كما قلنا، لا تقع استطاعة المكلف واختياره بين الإرادة والمراد الإلهي، فمجرد وجود الإرادة التكوينية الإلهية يعني لزامًا عدم إمكانية فعل أي شيء مخالف لها، وفي مثل هذه الحالة لا يبقى هناك أي أهمية في بحثنا لوجود اختيار للمؤلف أو عدم وجود اختيار له، وكما قلنا لو أراد الله مثل هذه الإرادة التكوينية من سائر الناس لأصبحوا هم أيضًا معصومين لا يسلكون إلا طريق الخير والصلاح فقط.
نأمل أن يكون لما ذكرناه - على اختصاره - تأثير في حمل أخينا كاتب الرسالة على إعادة النظر فيما استنبطه من آية التطهير، «وما توفيقي إلا بالله».