تأمُّلٌ في آيَةِ التَّطْهِير

فهرس الكتاب

توضيح حول آية المباهلة

توضيح حول آية المباهلة

قبل أن نختم كلامنا في هذا الكُتَيِّب، لابد لنا من كلمة حول البند 7 من رسالة أخينا - باختصار شديد طبعًا- كي لا نكون قد أهملنا الكلام عن هذا البند أو أغفلنا التعليق عليه. لقد أقحم الكاتب المحترم، دون انتباه منه، آيةَ المباهلة (آل عمران: 61)[47] في ميدان البحث حول آية التطهير [مع أنها لا علاقة لها بهذا الموضوع]!

فنقول:

أولاً: لكل مقامٍ مقالٌ. لقد كان بحثنا حتى الآن يدور حول طبيعة الإرادة المذكورة في آية التطهير، أي الجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب، وحول المُراد من «أهل البيت» في آية التطهير تلك، وأنه هل زوجات النبي ص أهل بيته وهل هُنَّ المخاطبات في الجملة الأخيرة في تلك الآية أم لا؟ من هنا نرى أن آية المباهلة لا توفر أي إجابة ذات علاقة أو ارتباط بتلك المباحث والأسئلة المطروحة حول آية التطهير.

يتفق المفسرون[48] أن آية المباهلة نزلت في ظروف جاء فيها جماعة من نصارى نجران برئاسة أسقف من أساقفتهم إلى المدينة ليجادلوا النبي ص حول بنُوَّة عيسى المسيح ÷ لِـلَّه عزوجل، وفي معرض رد النبي ص لكلامهم تلا عليهم ص آياتٍ من القرآن الكريم، لكنهم رفضوا قبول كلام حضرة النبي ص عنادًا ولجاجًا دون أن يقدموا له أية إجابة صحيحة عما ذكره لهم من أدلة، وأصروا على البقاء على عقيدتهم، هنا جاء الأمر من قبل الله تعالى لنبيه بقوله سبحانه:

﴿...فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ٦١ [آل عمران: 61]

عندئذٍ قال أسقف نجران لمرافقيه: إن جاء محمد [ص] إلى المباهلة بأبنائه وقرابته الأعزَّاء عليه وبخواصّ أصحابه فلا تباهلوه، أما إن جاء بسائر أتباعه فاقبلوا مباهلته!

في اليوم الموعود حضر النبي الأكرم ص إلى المباهلة ومعه عليٌّ وفاطمة والحسنان -عليهم السلام- ، وحضر النصارى أيضًا للمباهلة، فسأل الأسقف: من الذين جاء بهم النبي [ص] معه؟ قالوا: إن الرجل الذي أتى به محمد معه هو ابن عمه وصهره وأحب الناس إليه علي بن أبي طالب، وابنته فاطمة التي هي أعز الناس إلى قلبه، وحفيداه ولدا فاطمة. فلمَّا علم الأسقف بذلك امتنع عن المباهلة.

بناء على ذلك، تلاحظون أن هذه الواقعة المذكورة – كما أدرك ذلك الأسقف النصراني- دليلٌ على يقين النبي الأكرم ص المطلق بحقانية دعوته وعلى رسوخ إيمانه وعمق اعتقاده وقمة صدقه، إذ إنه في الظروف العصيبة والخطيرة، بدلاً من إتيانه بأتباعه ووضعهم في المحنة وواجهة التعرض للبلاء والاحتماء بهم، أتى بأعز الناس إليه وأقربهم إلى قلبه إلى ميدان المعركة ولم يتوانَ لحظة عن التضحية بنفسه وبأحب الناس إلى قلبه في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد كانت هذه هي طريقة النبي ص وأسلوبه الدائم في كل مراحل الدعوة، ولهذا نرى أن عمّ النبي ص حمزة أو ابن عمه جعفر بن أبي طالب نالوا شرف الشهادة. كما نرى أنه في المواقف الأخرى المليئة بالخطر الماحق، والتي يتراجع فيها الآخرون ولا يجدون في أنفسهم القدرة على خوضها، مثل حادثة «عمرو بن عبد ود» ونظائرها، نرى النبي ص يُقَدِّم ابنَ عمه وصهره ومن تربى منذ صغره في حجره، وكان كابن حبيب له، أي حضرة عليٍّ ÷. كما أن النبي الأكرم ص ذاته كان في أغلب الأوقات أقرب الناس إلى صفوف العدّو[49].

أجل، لو ادعى شخص أن نساء رسول الله ص كن أحب إلى رسول الله ص وأعز على قلبه من حضرة الزهراء وزوجها وابنيها سبطي النبي ص، لكان هناك مبرر ووجه للرد عليه بالاستدلال بآية المباهلة، لكننا نُذَكِّر للمرة العاشرة [أننا لم ندع مثل ذلك أبدًا] وأن بحثنا منصبٌّ فقط على مسألة محددة وهي: هل زوجات النبي ص هُنَّ أهل بيته وهُنَّ المخاطبات بالجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب ومشمولات بها أم لا؟ ومن الواضح تمامًا أن الإجابة عن هذا السؤال لا توجد في آية المباهلة.

ثانيًا: لو كان قصد أخينا أن يذكرنا بالادعاء المشهور الذي يُذكر عادةً بشأن هذه الآية، فإننا نذكره هنا بعدد من الإشكالات الواردة على هذا الادّعاء. إن النظرية المذكورة تدَّعي إنه بما أن النبي ص أخذ معه عليًّا ÷ إلى المباهلة، فعليٌّ في حكم نفس النبي ص ومساوٍ له! ومن جملة الإشكالات المتوجهة إلى هذا الادّعاء:

ألف) هذا الادعاء يستلزم التكليف بما لا يُطاق، وهو أمر تتنزَّه عنه ساحة الربوبية المقدسة لله سبحانه وتعالى. وتوضيح ذلك أن الآية الكريمة قالت: ﴿...فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ ... وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ؛ فلو فرضنا أن النبي الأكرم ص عرف عن طريق الوحي أن عليًّا ÷ مساوٍ له وكنفسه!! فكيف يمكن للأسقف المسيحي أن يعلم أي شخصٍ [من بينهم] هو كنفسه ومساوٍ تمامًا له كي يأتي به إلى المباهلة؟! إن العمل بهذا الأمر وتنفيذه فوق طاقة الإنسان، فالأسقف والوفد المرافق لا يعلمون الغيب![50]

ب) إضافةً إلى ذلك، فإن الوفد النجراني[51] جاء إلى المدينة من منطقة ليست قريبة إليها، ولم يأتوا بقصد التجارة أو السياحة بل جاؤوا بهدف المباحثة والمناظرة ومحاورة النبيص، ولا شك أنهم لا يمكنهم في مثل هذا السفر أن يأتوا بنسائهم وأطفالهم معهم، هذا بمعزل عن كون الأسقف والقساوسة المرافقين له كانوا عُزَّابًا طبقًا للتعاليم الخاصَّة برجال الدين المسيحي، وَمِنْ ثَمَّ فلم يكن لهم أطفال أيضًا كي يقول لهم النبي ص ائتوا إلى المباهلة بنسائكم وأطفالكم![52]

ج) حول كلمة «نفس» وجمعها «أنفس» يجب أن نعلم أنه رغم كون الكلمة تعني في أغلب استخداماتها «الذات» أي ذات الشخص نفسه كقولنا مثلاً: «جاء الوزير نفسه» أو قولنا: «رأيت المعلمين أنفسهم»، ونحن نعتبر هذا المعنى هو المعنى الأول لكلمة «نفس»، وفي هذا المعنى لا فرق بين المؤكِّد والمؤكَّد لأنهما شخص واحد عينه لا شخصان. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن جمع كلمة «نفس» أي «الأنفس» يستخدم في موارد كثيرة بمعنى «الأقرباء» و«الأصدقاء» و«المتعلقين بالشخص» و.....الخ، ونعتبر هذا المعنى المعنى الثاني للكلمة.

وفي القرآن الكريم ما يوضح لنا هذا المعنى ويحل لنا هذا الإشكال حول معنى كلمة «أنفس» ومدلولها، فمثلاً يقول القرآن الكريم مخاطبًا اليهود:

﴿فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ [البقرة: 54]

﴿وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم [البقرة: 84]

وجميع المفسرين متفقون على أن المقصود من الآية ليس الانتحار بل فسروا الآية بقولهم: أي: ليقتل بعضكم بعضًا أو لا يخرج بعضكم بعضًا.

وقال القرآن أيضًا:

﴿لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا [النور: 12]

﴿فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ [النور: 61]

﴿وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ [الحجرات: 11]

والمفسرون جميعًا يفسرون الآية 12 من سورة النور بـ: لولا ظن المؤمنون بإخوانهم المؤمنين خيرًا، أي ظنًّا حسنًا. وقالوا في تفسير الآية 61 من سورة النور «أي ليسلِّم بعضكم على بعض» وقالوا في تفسير الآية 11 من سورة الحجرات: أي «لا يطعن بعضكم على بعض».

فكما نلاحظ، يستخدم القرآن كلمة «أنفس» في كثير من الحالات بمعنى: «الأصدقاء» و«الأصحاب» و«الأقرباء» و«الآخرين اللذين لهم ارتباط بنا وهم منّا»، أي بالمعنى الثاني لكلمة «نفس».

بل إن القرآن الكريم قال بشأن النبي الأكرم ص ذاته:

﴿بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ [آل عمران: 164]

وقال:

﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ [التوبة: 128]

ولاشك أن «النفس» في هذه الموارد لا تعني أن جميع المؤمنين هم نفس النبي أو أنهم مساوون للنبي ص! وبمثل ذلك استخدمت كلمة «أنفسنا» في آية المباهلة بالمعنى الثاني أي: تعالوا ندعو أصحابنا ومن هم من جماعتنا.

ويبنغي أن ننتبه أننا لو أخذنا كلمة الأنفس في جملة ﴿وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ على المعنى الأول لوقعنا في عدد من الإشكالات؛ منها ما أشرنا إليه سابقًا وهو أن ذلك يستلزم تكليف من يخاطبهم النبي ص بهذه الآية بما لا يُطاق، فإن قيل فلنفسر كلمة ﴿وَأَنفُسَكُمۡ على المعنى الثاني لكلمة النفس، عندها يحقّ لنا أن نسأل: إذَن لماذا فسرتم ﴿وَأَنفُسَنَا الأولى على المعنى الأول؟!

والإشكال الآخر أنه لو كان علي ÷ نفس النبي ص ومساويًا له، فلماذا كان ينزل مَلَك الوحي على النبي ص فقط، ولم يكن ينزل على علي ÷؟ ولماذا لم يصبح علي ÷ نبيًّا كما كان هارون نبيًّا؟ مع أنه لم يدَّع أحد أن هارون كان نفس موسى -عليهما السلام- ، ومساويًا له!

في رأينا أن مثل هذا الادعاء لا ينسجم حتى مع حديث المنزلة (من فضلكم تأملوا أكثر في معنى «التساوي»). ثم إن هذا الادعاء، مخالف بكل وضوح للواقع، فلا شك أن عليًّا ÷ كان تلميذ النبي ص وتابعًا له، وأن النبي ص كان يرى مَلَك الوحي ولم يكن علي ÷ يراه..... وهكذا..

على ضوء ما ذُكر، يجب أن ننتبه أنه استنادًا إلى أصول المباهلة وطقوسها، فإن المقصود من الآية 61 من سورة آل عمران كان حضور ممثلي الديانتَين [الإسلام والنصرانية]: الرجال والنساء والأطفال، وبكلمة واحدة: أن يُحضِروا أفراداً من جماعتهم وأقربائهم للمباهلة، ولذلك قام النبي ص انطلاقًا من خلوص نيته ويقينه الذي لا يتطرق إليه الخلل في حقانية رسالته بإحضار أعز أقربائه وأهله وأقربهم إليه إلى ميدان المباهلة يوم المباهلة.

وإذا عرفنا ذلك، فلنا أن نسأل: كيف تدل هذه الحادثة على عدم دخول زوجات النبي ص في خطاب الجملة الأخيرة من الآية 33 من سورة الأحزاب؟ ومن أين يُستَنْبَط هذا الأمر من حادثة المباهلة؟!

أترك الحكم في ذلك للقراء الكرام!

وأختم كلامي هذا بتلاوة هذه الآية المباركة من القرآن الكريم وهي قوله تعالى:

﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ [الحشر: 10].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[47]- نص الآية: ﴿فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ ٦١. (المُتَرْجِمُ) [48]- على سبيل المثال، يمكن مراجعة تفسير مجمع البيان، وملاحظة ما ذكره الطبرسي ذيل تفسيره للآية 61 من سورة آل عمران. [49]- كما رُوِي عن عليٍّ عليه السلام قوله: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أقربَ إِلَى العَدُوِّ مِنْهُ»، وقال: «وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ برَسُولِ اللهِ ص، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا». (انظر: النسائي، السنن الكبرى، ح رقم (8585)؛ أحمد بن حنبل، المسند، ج 1، ص 86 و156؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص 143؛ البيهقي، دلائل النبوة، ج 3، ص 258؛ السيوطي، الجامع الكبير، ج 2، ص 302. وانظر: القاضي عياض بن موسى، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج 1، ص 116). (المُتَرْجِمُ) [50]- لذلك قال المرحوم الطبرسي أيضًا في مجمع البيان حول تفسير كلمة «أَنفُسَكُمۡ»: أي «من شئتم من رجالكم». [51]- نجران منطقة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، تقع شمال اليمن. [52]- أي أن المقصود ليس الإتيان بنسائكم أنفسكم أو أولادكم أنفسكم، بل الإتيان بالنساء والأبناء من جماعتكم وأتباعكم وأنصاركم.