سوانح الأيام - ايام من حياتي

فهرس الكتاب

وصية البرقعي إلى ولده محمد حسين[311]

وصية البرقعي إلى ولده محمد حسين[311]

وأختم الكلام بأمر مهم، وهو: أنني أوصي بأنَّ جميع كتبي وآثاري تحت تصرف ولدي الصغير «محمد حسين» فله أن يتصرف بها كيفما يشاء، والطباعة والنشر لا تكون إلا برضاه وإذنه، وكل ما يُنسب إليّ بعد موتي من المؤلفات فإن كان مما أیّده فهو صحيح، وإلا فإنني بريء منه، وأرجو من أصدقائي وأحبائي المقربين مني أن يُراعوا ذلك، أسأل الله أن يكتب لجميع أولادي الخير والسعادة، وأن يجعلهم نباتاً حسناً، ويرزقهم ذرية طيبة إنه سميع الدعاء.. آمين!

وسأورد هنا بعض الإجازات العلمية التي تثبت بلوغي مرحلة الاجتهاد، والله تعالى يعلم أنني لا أقصد بذكرها التفاخر، بل غرضي أن أقطع الطريق على أعدائي الذين يكذبون وينكرون الحقائق، وأنا على يقين بأن حصول المرء على إجازة من علماء يعتقدون بعقائد باطلة ومبتلون بالخرافات لا فخر للرجل فيها، وأنَّ مثل هذا لا ينفع العبد غداً في الآخرة.

الحاصل أنني قد تتلمذت على كثير من العلماء منهم: «آية الله محمد تقي خوانساري»[312].

وأستأذن القارئ في نقل حادثة قديمة حدثت مع السيد الخوانساري لا تخلو من عبرة، وقد ذكرتها من قبل في كتابي «تراجم الرجال» وهذا كتاب ألفته أيام الشباب عندما كنت متمسكاً بشدة بالخرافات الحوزوية، وأنا الآن لا أرضى بطباعته. وأرى أن ذكر هذه الحادثة لا يخلو من العظة.

كان السیّد «محمد تقي الخوانساري الموسوي» من تلاميذ المرحوم الشيخ «عبد الكريم اليزدي الحائري»، وعاش مدة في النجف ودرس فيها عند السيد ضياء الدين العراقي، وهو ممن سُجن ثم أبعد إلى الهند بسبب تبّنيه مقاومة الإنجليز في العراق أثناء الحرب العالمية الأولى، فهو من أبرز مدرسي الحوزة العلمية، ولذا أُوكلت له مسؤولية إدارة الحوزة العلمية بعد موت اليزدي، وكان يدرس في «المدرسة الفيضية» ويصلي بالناس، وكنت أحضر دروسه أحياناً بعد الصلاة، وكان ممن يرى وجوب صلاة الجمعة فكان يقيمها في مسجد الإمام الحسن العسكري÷.

أما الحادثة التي أودّ ذكرها فقد وقعت سنة (1363هـ) حيث شهدنا قحطاً في قم وانحباس المطر تلك السنة، فطلب الناس من الخوانساري أن يصلي بهم الاستسقاء، فقام بالاستعداد لها ثلاثة أيام -فيما يعرف بمقدمات الاستسقاء- ثم في اليوم الثالث سار مع آلاف الناس للصلاة وكنت معهم، فمررنا على جیش من الأمريكان والبریطانیین يحفرون بئراً لاستخراج الماء بالآلات وكانوا يترددون بالسيَّارات. فالمنافقون الداخليون -يعني الصوفية- المقيمون في قم وهم من أعداء المسلمین قالوا لأولئك الكفار الذين يشرفون على حفر الآبار: إن أهل قم خرجوا لمواجهتكم، ولم يكن السيد الخوانساري ومن معه يعلمون بذلك؛ فتجهز الأمريكان بأسلحتهم، فمر الشيخ ومن معه فلم ير الأمريكان منهم أي هجوم!

وصلنا إلى المصلى وصففنا وصلينا صلاة الاستسقاء، وصعد الخوانساري على المنبر وذكّر الناس وكان الجو شديد الحرارة، ولكن لم ينزل المطر، ثم عدنا إلى قم، وأثناء الطريق أخذ بعض المنافقين وضعاف النفوس يستهزئون ويسخرون منّا، وللأسف كان منهم شيخ مدّاح وهو عمیل لمتولي الضريح (قبر المعصومة) قال لي متهكماً: أنتم مشايخ مجانين، قد أغرقتم مدينتنا بصلاتكم وجاء السيل وذهب بالمدینة! وقد آلمني كلامه وانزعجت كثيراً وخاصة أن ضعاف الإيمان تأثروا به.

ذهبت إلى المنزل وكنت مغموماً، وفي اليوم التالي أخبرونا بأن السيد الخوانساري سيخرج مجدداً لصلاة الاستسقاء، ولكن هذه المرة لن يخرج معنا إلا عدد قليل يصلون إلى مائتي شخص أكثرهم من طلاب العلم والعلماء، وبكل فاقة وحاجة خرجنا للصلاة جنوب مدينة قم، فصلينا خلف المقبرة الجديدة صلاة الاستسقاء، وأثناء الصلاة خرجت علينا السحب ثم سقط المطر قليلاً، فأتممنا صلاتنا ثم رجعنا إلى المدينة، وفي نفس اليوم هطل المطر بغزارة فملأ جميع الحياض والجداول والأنهار، وجرت منه سيول البلاد، وكان هذا من فضائل الله تعالى، لا سيما في ذلك الجو الحار، وبعد توقف المطر ستة أشهر، فكأن الذي نزل علينا ليس مطراً بل روح جديدة سرت في أجسادنا، حتى أنني أتذكر تلك اللحظات التي قلما مر عليّ مثلها.

كانت هذه إحدى الذكريات أيام التحصيل في مدينة قم.

[311] انظر الوثيقة في الملحق رقم 28 [312] سبقت ترجمته.