سوانح الأيام - ايام من حياتي

فهرس الكتاب

الملك «رضا شاه البهلوي» وعلماء الدين في إيران

الملك «رضا شاه البهلوي» وعلماء الدين في إيران

ومن الضروري أن أُبَيِّن بأن بلاد إيران قد تسلَّط عليها تلك الأيام رضا خان البهلوي[19] بالبطش والإعدام لكل من يُخالفه ويقف أمامه، وكان سيء النظرة إلى علماء الدين، ويراهم حجر عثرة في طريقه، لاسيما أنه كان قد رأى الشيخ المرحوم: آية الله فضل الله النوري[20] -رحمةُ الله عليه - الذي أعدموه بغير حق؛ وكان - أي المَلِك رضا خان- يعلم أنه كان من أبرز علماء إيران قاطبةً، وأنه كان معارضاً للثورة الدستورية الأورُبية إذْ كان يُطالب بأن تكون الثورة الدستورية شرعية إسلامية تعمل على تطبيق الأحكام الإسلامية بدلاً من القوانين الأورُبية، خلافاً لكثيرٍ من العلماء الذين كانوا موافقين على الثورة الدستورية المطلقة (غير المقيدة بالشرع)، مما دعا السلطة حينها إلى تحریض الناس علیه، فَدَاهَمَ ثُوَّار الحركة الدستورية بیته للقبض عليه واقتادوه وأعدموه شنقاً بلا محاكمة في «ميدان توبخانه»[21]، ووقف بعض علماء الدين وبعض الناس تحت حبل المشنقة لإظهار سرورهم بإعدامه وكانوا يُصَفِّقون أثناء شنقه! والغريب أن بعض العلماء وافقوا السلطة الظالمة وفسَّقوا هذا العالم المجاهد، بل إن بعض مساجد طهران احتفلت بقتله، مع أن قتل ذلك العالم كان عملاً إجرامياً بشعاً وخاطئاً أولاً: لأن دعاة الحركة الدستورية كانوا يدَّعون النضال لأجل الحرية والديمقراطية، فكان عليهم إذن أن يحترموا الرأي المُخالف ويعطوا لكل فردٍ الحريَّة في إبداء وجهة نظره، لا أن يقوموا بشنق كل من أبدى رأياً مخالفاً وأعرب عن عقيدته! وثانياً: كيف أجازوا لأنفسهم إعدامه دون محاكمة؟! وثالثاً: لماذا كل هذا الفرح والاحتفال والتصفيق والرقص بقتل هذا الرجل؟!

عباس نوري في مكتبته

عباس نوري معلقاً بالمشنقة

الواقع أن رضا خان حینما رأی سکوت العلماء بعد إعدام المرحوم النوري أيقن بأن هؤلاء العلماء ليسوا على قلب رجل واحد وأن أكثرهم لا يتناصحون ولا يتناصرون، بل كان بعضهم يَشِي على الآخر، ورأى بالطبع من علماء الدين أموراً قبيحةً أخرى يندى لها الجبين؛ أقول: کل هذه الأمور شجَّعت الملِك رضا خان على محاربة رجال الدين حرباً شعواء. من ذلك أنه لما استولى رضا خان على المُلك وقوي سلطانه واستقرَّ له الأمر، أمر النساء بخلع الحجاب، وأن يلبس الرجال لباساً مُوَحَّداً من ضمنه القُبَّعة البهلوية.. وأن لا يلبس العمامة إلا رجل معه إذن من الحكومة، وكل عالم يلبسها بلا إذن فإن الشرطة تُجبره على خلع ثياب المشيخة، وتُتلف عمامته. وحتى لا يتعرَّض إلى العلماء من أصحاب العلم والفضل الحقيقي، شكَّل لجنة امتحانية في مركز البلاد مؤلفة من عدد من علماء الدين الكبار، وصارت اللجنة تمتحن كل شيخ مُعَمَّم فإذا وجدته ذا علم ومعرفة أجازت له التزيي بزي علماء الدين وإلا فلا (هذا رغم أن قصد البهلوي من هذا العمل كان قصداً خبيثاً إذ كان يُريد أن لا يبقى بين الناس عالم دين وأن يسحب البساط من تحت علماء الإسلام). وبالطبع لما كان أكثر المُعَمَّمين أُمّيِّين أو شبه أميِّين اضطروا إلى التخلي عن لباس المشيخة لأن الشرطة كانت تتعرَّض لهم في الأزقة والأسواق وتُطالبهم بإبراز التصريح بلبس لباس علماء الدين فإن لم يكن لديهم ذلك التصريح نزعوا عنهم عمامتهم في الشارع ذاته أو السوق أمام كل الناس أو اقتادوهم إلى مخفر الشرطة ومزَّقوا لباسهم. ولهذا لم يبقَ من كل مئة شيخ إلا عدد ضئيل لأنهم كانوا يقتادون المشايخ الجهلة والأميين بكل إهانة وإذلال ويخلعوا عنهم لباس الشيوخ.

و وقعت هذه النكبة على رجال الدين في وقت كانت أحوال كثير منهم مزرية، فعقائد كثير منهم كانت فاسدة، وأخلاقهم سيئة، وقد أبغضهم كثير من الناس، حتى أنك لا تجد رجلين من رجال الدين الذين يُسَمُّون بـ«الروحانيين» في قرية واحدة متّفِقَين أو متصالحين، بل كل واحد منهما يسعى في فضح الآخر واتِّهامه؛ ولا یجتمعان علی مائدة.

أذکر هنا حکایة مضحکة نستطیع أن نفهم من خلالها مستوى تفكير أصحاب العمائم في تلك الأیام التي بدأت حكومة بهلوي بنزع عمائمهم وثیابهم:

يُذكر أن رجلين من رجال الدين الروحانيين ذهبا للدعوة في إحدى القرى، فدعاهما رئيس القرية عنده، فلما حضرت الصلاة ذهب أحدهما ليتوضأ، فسأل رئيس القرية الآخر: كيف عِلْمُ صاحبك؟ فقال: هو كالحمار لا يفقه شيئاً. وكان قصده أن يستأثر بالمكانة في تلك القرية. فلما خرج الثاني للوضوء، سأل رئيس القرية الذي أتى: كيف عِلْمُ صاحبك؟ فقال: هو كالحمار لا يفهم شيئاً.

فلما حضر وقت الغداء إذا به يُقَدِّم لهما شعيراً ونخالة قمحٍ في وعاء، فتعجَّب الرجلان! فقال لهما رئيس القرية: في الحقيقة لم أكن أعرف أحداً منكما، فسألتكما فأخبرني كل واحد منكما أن أخاه حمارٌ، فأتيت لكما بطعام الحمير!!

والحقيقة أن من دواعي النظرة السيئة لدى الناس في ذلك الوقت إلى علماء الدين ورجاله، هو ما انتشر عن بعضهم من المخالفات، لاسيما ممن تصدى للقضاء حيث عُرِف بعضهم بأخذ الرشاوي وتزوير الأوراق؛ لاسيما أن المحاكم العدلية لم تُشَيَّد بعد، وكان تسجيل الوثائق والمستندات موكولاً إلى رجال الدين. فكان كل شيخ يسعى إلى أن يُصبح كاتب عدل ومسؤولاً عن الدعاوى والمرافعات. وقد وصل الأمر أحياناً إلى أن بعض الملَّاكين الكبار كان يستطيع أن يُصادر أملاك مئة شخص آخر بالرشوة ويتصرَّف في أملاك الآخرين بأخذه لوثيقة في ذلك من شيخ الإسلام أو من عدد من رجال الدين، حتى وصل الأمر أحياناً إلى تزويج امرأة ذات بعل بسند تمليك!!

وعلى سبيل المثال: ذكر لي الشيخ جواد شريعتمداري وهو من علماء طهران آنذاك، وكان إماماً لمسجد الحاج رجب علي في حي «درخوانكاه» أن رئيس قرية زنجان[22]عَشِق امرأةَ ملَّاك ثري في القرية، فاستغل فرصة سفر زوجها، فأتى بشهود زور وأعطاهم بعض المال فشهدوا بأن زوجها قد مات، فعقد شيخ القرية تلك المرأة على رئيس القرية مع علمه بكذب الشهود، ثم أقاموا حفل الزفاف علانیة، وعندما رجع الرجل الثري فُوجئ بزواج امرأته، ولما ذهب للشيخ وسأله أخبره بأن الشهود شهدوا على موته وأمر بطرده فأخرجوه من مجلس «شیخ الإسلام»!

والحاصل أن الوثائق والصكوك لم تكن رسمية، فكان التلاعب منتشراً بكثرة، حتى جاء البهلوي فأمر بتثبيت الأملاك والصكوك بشكل رسمي، ففرح الناس بذلك، إلا أن الأمر لم يلبث قليلاً حتى عاد الفساد في المحاكم وغيرها.

ولم يقتصر التلاعب على القضاء، بل كان التلاعب منتشراً حتى في الدعوة وتولي المنابر، حيث تسلَّط عليها جُهَّال ليس لبعضهم من العلم إلا حفظ أربعة أبيات مليئة بالشرك، وهكذا اختلطت معالم الدين بالغُلُوّ والخرافات واختلط الحق بالباطل.

[19] رضا خان بهلوي (1878-1941 م) قائد فرقة القوات الكازاخية في عهد دولة القاجاريين. قام سنة 1921م وهو على رأس وزارة الحربية (الدفاع) بحل الحكومة. وقد تولى مابين سنوات 1923-1925م منصب رئيس الوزراء، وقام بعد ذلك بخلع آخر ملوك آل قاجار سنة 1925م، وأجبر البرلمان (المجلس الوطني) على أن ينتخبه مَلِكاً (شاه) على البلاد، وقام سنة 1934م باستبدال اسم البلاد القديم "فارس" بإيران (أي بلاد الآريين)، واستمر في حكم إيران حتى عام 1941م حين عُزِل على يد القوات البريطانية والروسية بسبب تأييده لألمانيا ورفضه السماح لقوات الحلفاء باستخدام الأراضي الإيرانية لتزويد جيوشها، فقامت الجيوش الإنجليزية والسوفييتية بغزو بلاده وأجبرته على الاستقالة وولَّت مكانه ابنه محمَّد رضا شاه، ونفَتْهُ إلى مومباي في الهند، ومنها إلى جزيرة موريشيوس شرق جزيرة مدغشقر في وسط المحيط الهندي. (المُحَقِّق) [20] فضل الله النوري، مرجع ديني مشهور، ولد عام 1258هـ، يُعَدُّ مناضلاً في التاريخ الإيراني، أُعدِم شنقاً سنة 1327هـ في طهران. [21] ميدان توبخانة: أي: ساحة المدفعية، وهي ساحة في قلب مدينة طهران، وقد أصبحت تعرف بعد الثورة بميدان الخميني. [22] زنجان: مدينة تقع شمال غرب طهران على أكثر من 300 ميل.