في قرية جعفر آباد ورمز آباد
نعود إلى سرد ذكريات رحلات الوعظ الأولى:
لما رأيت أن الوضع في جواد آباد لا يسمح بالبقاء مع ذلك الشيخ خرجت مُتوجِّهاً إلى قرية جعفر آباد[23]، وعند وصولي ذهبتُ إلى منزل رئيس القرية فرأيتُ رجلاً فأخبرني بأن القرية لا يُوجد فيها مجلسٌ دينيٌّ في رمضان، وأن مسجد القرية قد خَرِب وتهدَّم سقفه، فرأيت أن أخرج من هذه القرية إلى قرية «رمز آباد»، ولما اقتربت منها رأيت رجلاً يمشي وعليه ثیاب فاخرة، فسألني عن سبب مجيئي لهذه القرية؛ فقلت له: جئت لأُذَكِّر الناس وأُعَلِّمهم دينهم. فقال: رجال هذه القرية يغلب عليهم الفسق والفجور والجهل بالدين وأكل الربا ولیس لهم علاقة بالدین، فلو بقيتَ هنا فلن يستفيدوا منك شيئاً فليس هناك أيّ مجالس دينية في هذه القرية في شهر رمضان.
فسألتُه: هل يوجد شيخ في هذه القرية؟
فقال: نعم. فطلبتُ منه أن يدلّني عليه، ولما وصلتُ إلى بيته تبيَّن لي أنه یتعاطى بعض المواد المخدرة، فتکلمت معه فقال: في هذه القرية لا يُوجد شهر مقدس اسمه رمضان فلا تُتعب نفسك، فخرجت من عنده وعزمت على أن أبقى في المسجد وأصوم کي لا یضیع صومي، ولما دخلت المسجد رأيت الرجل نفسه الذي صادفته عند مدخل القرية وقال لي: إن الناس هنا ليس فيهم خير ولن يصلح أمرهم، وعلمتُ بأنه رئيس هذه البلدة. وهنا قال لي: يا سيدنا، هل رأيت شيخ قريتنا؟ إنه شخص حسود. فقلت: لا يهمُّني ذلك، ثم قال لي: إن بقيت هنا فلن تجد مسكناً ولا مالاً. قلت: أُريد أن أبقى على كل حال، وسألته: هل لديكم شخص يُؤَذِّن؟ فأرسل الرئيس إلى رجل يُقال له مشهدي شعبان لكي يأتي ويُؤَذِّن، وبعد ذلك صليت معهما وجمعنا الصلاة.
حينها لم يكن في المسجد إلا بساط صغير من حصير مُمَزَّق، وكانت أبوابه متهالكة، فسألت مشهدي شعبان: هل لك أن تُوَفِّر لي غرفة أبقى فيها مُدَّة شهر رمضان لأصوم الشهر فيها؟ فذهب مشهدي شعبان، ثم رجع ومعه أحد فقراء القرية وأخبرني بأن هذا الرجل عنده غرفة يعيش فيها هو وعياله، وأنه قد قَبِل أن يُؤَجِّر لي نصف الغرفة بحيث يضع ستاراً بيني وبينه على أن نأكل سوياً، فقبلت على أن أعطيه عن كل ليلة ثلاثة قرانات[24].
وقد اجتهدت في دعوة الناس وتذكيرهم بالله تارةً في المسجد مع خمسة أو ستة ممن يأتون للمسجد، وتارةً في أحد الطرق أو في حمام القرية أو عند الدكان.. وكنت أُسْأَل عن بعض الأحكام في الأصول والفروع فأُجيبهم بما يفتح الله تعالى عليّ، وكان بعض الناس يتهرَّبون منّي، فإذا رأوني من بعيد غيَّروا طريقهم حتى لا أُكلِّمهم أو أعظهم!
وقد بقيت على هذه الحال إلى أن حلَّت علينا ليلة التاسع عشر من رمضان.. وقد جرت العادة بأن نُحييها، ولكن المسجد کان خالیاً ولم يأتِ من أهل القرية سوى خمسة أو ستة فقط. ولما كانت ليلة الحادي والعشرين وهي ليلة مقتل أمير المؤمنين علي (ع)إذا بالرجل الذي لقيته أول مقدمي إلى هذه القرية -واسمه (غلام رضا خان) - يُرسل إلي صاحب الحمام ليدعوني وجميع کبار أهل القرية دعوة عامة للفطور والسحور من وَقْفٍ أوقفه، فطلبت من صاحب الحمام أن يرجع إلى صاحب الدعوة، وأن يُخبره بأنني سوف أبقى في هذه القرية دون أن أذهب إلى منزل أحد، وأنني لن أطلب من أحد مالاً ولا غيره، وأن المنزل الذي أسكن فيه يكفيني. فذهب صاحب الحمام. ولما حلَّت لیلة الحادي والعشرين أرسل رئيس القرية إليَّ ابنه ليدعوني إلى الإفطار والسحور، فأجبته بالجواب عينه الذي أجبت به صاحب الحمام، بعد ذلك جاء رئيس القرية بنفسه وقال: أعرف بأنني قلت لك كلاماً غير لائق عند قدومك -ويقصد قوله: إنك لن تجد مالاً ولا مسكناً..- ولكني أرجو أن تقبل دعوتي هذه الليلة وأن تُلقي علينا موعظةً وتقرأ لنا مرثيةً، ولك الخيار إن أردت أن تأكل أو لا؟ فقبلت على شرط أن لا آكل عنده، وأن أخرج إذا جاء وقت الفطور.
عندما وصلتُ إلى منزل الرجل رأيته قد غصَّ بمئات الناس، فدخلت غرفة الكبار فقاموا احتراماً لي، فلما جلست قالوا: هل نأتي بالطعام؟ قلت: لا. ثم قمت وألقيت عليهم خطبة، وكان مما ذكرته لهم أن عَلِيَّاً والحسين هما الآن في عالَمٍ آخر، وأنهما في غاية السعادة، وأنهما لا يحتاجان إلى بكائنا، والأجدر بهم أن يبكوا على حالهم التعيسة في أمور دنياهم وآخرتهم، وقلت لهم: انظروا إلى حالكم، بيوتكم مُعْدَمة، وليس فيها بُسط ولا ماء ولا ما تَتَزَيِّنُون به، كما أنكم تجهلون أمور دينكم، قد حلقتم لحاكم، ولم تتعلَّموا شيئاً سوى لعب القمار وشرب العرق وتدخين الأفيون، وأكثركم لا يعرف القراءة والكتابة، وخلاصة الأمر أنني تكلَّمت معهم على نحو بكوا فيه على حالهم.
وبعد أن نزلت من المنبر سألني أحد الكبار في المجلس: هل ورد تحريم حلق اللحية في القرآن (لأني قلت أثناء خطابي: إن معظمکم تحلقون لحاکم، ولم يَرُق لهم كلامي هذا) فقلتُ: هاتوا القرآن، ثم قرأت لهم الآية السادسة والعشرين من سورة الأعراف: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ....﴾ [الأعراف:26] وعندما سمعوا كلمة (ريشاً)[25] فهموا أن المراد شعر اللحية[26] فسكتوا، وأنا أيضاً لم أشرح الآية، والحقيقة أنه لا يُوجد آية تدل على وجوب اللحية أو تتحدث عن حُكم اللحية.
وعلى كل حال فإنهم اقتنعوا بهذه الآية ثم سألوني: هل تُقْبَل توبتُنا؟ فقلت: نعم. ثم أخذوا يُعلنون توبتهم واحداً تلو الآخر، وعلَّمتهم الاستغفار، إلى أن جاء دور صاحب المنزل «غلام رضا خان» فقلت له في أُذُنه: أنت تُريد التوبة فهل أصبحتَ رجلاً يحترم الآخرين أم لا؟ قال: نعم، أُقسم بجدِّك أني صرت إنساناً فلا تفضحني ثانيةً، فقلت: علامة صدقك في التوبة أن تأتي بهؤلاء الناس كلهم إلى المسجد غداً مساءً، فوعدني بذلك.
وفي الليلة التالية وضعوا البُسط في المسجد وجلبوا مدفأة، وجاؤوا جميعاً إلى المسجد، ثم اجتهدت في تعليمهم، ثم في ليلة الثالث والعشرين من رمضان اجتمع أهل القرية في المسجد، وجاءني الخان (رئيس البلدة) وسألني: هل تأذن لنا أن نسير على عادتنا في أن نجمع لك مبلغاً من المال؟ - وكان من عادتهم أن يجمعوا مالاً للواعظ في ليلة القدر[27]- فأجبتُه بشدَّة بأني لم آتِ لجمع المال من الناس، فذهب وجلس في مكانه.
وفي بقية الليالي كانت المسائل الدينية تُطرح للنقاش، إلى أن حلَّت علينا ليلة العيد، فجاءني رئيس القرية فيها وقال: يا شيخ لقد تحمَّلتَ المشاق مُدَّة شهر كامل فهل تأذن لي أن أُوَفِّر لك مبلغاً من المال مقابل ذلك؟! فرفضتُ بشدَّة بالغة وقلت: اذهبوا واجلسوا في أماكنكم. وقد كان لعدم اكتراثي بالمال ورفضي القاطع لأخذ أجرة على الدعوة إلى الله أثر بالغ في قبول الناس لي، ولله الحمد.
في الواقع لقد تعمَّدْتُ أن أُبدي شدَّةً بالغةً مع الرئيس؛ لأنه قال لي في اليوم الأول: لا يُوجد لك في هذه القرية مال ولا منزل، وكأنه لا يُريدني في هذه القرية، فأردت أن أُفْهِمَهُ أن تعليم الدين لا علاقة له بدفع المال.
وفي يوم العيد أقمت فيهم صلاة العيد، وبعد الموعظة جاءوا بِفَرَس لنقلي إلى سكة الحديد، ولما ركبت أيقن الناس أني لست «شيخ مال»، وأني سأذهب دون أن آخذ منهم شيئاً، في هذه اللحظة تأثَّر الناس وبدأ بعضهم يقول وهو يبكي: اسمح لنا لم نعرفك يا سيد ولم نعرف مكانتك. فقلت: أيها السادة! أنا أيضاً مثلكم عبد ضعيف، توجَّهوا إلى الله، وأطيعوا أمره، وتعلَّموا دينه.
في هذه المرَّة رجعت من سفري بخُفَّيْ حنين، وقد كانت أغلب أسفاري التي في شهر المحرم ورمضان على هذه الحال أرجع منها إما صفر اليدين دون أن آخذ شيئاً أو بمال يسير جداً؛ لأني لم أكن طالب دنيا، ولا أُخادع الناس للحصول على شيء من أموالهم.
[23] جعفر آباد: قرية تقع جنوب شرق طهران، وهي من توابع ورامين وتبعد عنها قرابة ستة أميال ونصف. [24] قرانات جمع قران: عملة قديمة لم تعد مستعملة في إيران، والقران مثل الريال الإيراني (عشرة ريالات= تومان) (المُحَقِّق) [25] المعنى اللغوي للريش: ريش الطائر، لكن المقصود به هنا اللباس الذي يتزيَّن به الإنسان كما يُزيّن الريش الطائر. (المُحَقِّق) [26] وذلك لأن كلمة ريش موجودة بالفارسية وتعني «اللحية». (المُحَقِّق) [27] المتعارف عليه عند الشيعة أن ليلة القدر هي ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان.