سوانح الأيام - ايام من حياتي

فهرس الكتاب

نفي الكاشاني ثم البرقعي

نفي الكاشاني ثم البرقعي

لم تمض مدة طويلة حتى أعادوا القبض على آية الله الكاشاني، ولكن هذه المرة بطريقة وحشيّة، حيث اتهموا الكاشاني بأنه أراد قتل «الشاه» في الجامعة، فأرسلوا بعض مرتزقتهم من السافاك (رجال المخابرات) فهجموا على منزله وأمسكوه وأهانوه، ثم أبعدوه إلى لبنان، الأمر الذي يبين أن الدولة اللبنانية وقتها كانت شريكاً لدولة إيران في إيذاء المسلمين.

كنت وقتها في المدرسة الفيضية[51] في قم، فذهبت ووقفت بين الطلاب وسط المدرسة عند حجر قرب البركة، ومع أني كنت حينها قل ما أخطب إلا أنني تكلمت فيهم وقلت: في هذه السنة قبضت الدولة الروسية على قسیس فغضبت جميع الدول، واستنكر النصارى في كل العالم هذا الأمر! فكيف تسكتون أيها السادة الطلاب والعلماء وأنتم ترون الدولة تقبض على إمام مجتهد بصورة فظيعة وبدون أي محاكمة؟! ألستم من أنصار العلم والعلماء والمدافعين عن المظلومين؟!

ثم استرسلت في الحديث؛ فتحرك أصحاب آية الله البروجردي ليفرقوا الناس المجتمعين من حولي، وحركوا خادم المدرسة وبعض الأوباش فأخذوا يفرقون الناس بأنابیب المياه، ثم قاموا بإبلاغ الدولة أن البرقعي هو الوحيد الذي يعارض الدولة في قم، ونصحوهم بأن يبعدوني كي لا يبقى من يشنع على الدولة أو يعارضها في قم.

بعدها رفع المسؤولون في شرطة قم إلى طهران اقتراحهم بإبعادي، ومن طهران صدر الأمر بإبعاد كاتب هذه السطور، وهنا تحرك بعض الطلاب القريبين مني للدفاع عني.

كان منزلي في قم يقع في زقاق «عشقعلي» قرب ممر «جدّا»، فجاء الجنود وحاصروا المنزل وأمرهم المسؤولون بأن يقبضوا عليّ إذا خرجت. ومن المصادفة أن سیداً كان عندي يقال له: هاشم حسين، وحين خرج ليذهب إلى المدرسة ظنوا أنه البرقعي فألقوا القبض عليه وأرسلوه مباشرة إلى (خُرَّم‌آباد)[52] بدون أي محاكمة أو تحقيق، ثم علموا بعد ذلك أن الرجل لم يكن البرقعي، وأنا علمت مباشرةً أنهم يريدون القبض عليّ فخرجت ليلاً وتخفيت في المدرسة الفيضية في غرفة علوية، وكان أحد المسؤولين يتردد على المنزل ليسألهم ويقول لهم: أخبروه إذا رجع بأن ضابط الأمن يريده. فرأيت أن بقائي في المدرسة لا فائدة منه؛ لأن الدولة لن تتراجع عن قرارها، فتجهزت وخرجت إلى إدارة الشرطة، ورأيت سيارتين عسكريتين قادمتين من طهران ينتظراني، وأثناء دخولي أمسكوا بي وأجلسوني في السيارة الصغيرة، ثم ساروا بي إلى طهران. واتفق مع هذا أنهم قبضوا على السيد الواحدي، وهو شاب من «فدائيي الإسلام»[53] وعمره تسعة عشر عاماً، وقبضوا معه على تاجر كان من أصدقاء آية الله الكاشاني، ظنَّت الدولة أنها بالقبض على هؤلاء الأشخاص كأنّها فتحت الهند! وعند وصولنا إلى إدارة الشرطة في طهران رأيت جميع الموظفين من ضباط وغيرهم قد خرجوا من مكاتبهم إلى الصالة ليشاهدونا، وكنت وقتها قد بلغت حدود الأربعين من العمر، والسيد الواحدي بجواري شاب في عمر ابني، فكل من رآه ظنه ولدي.

ولما دخلنا الصالة كان جميع الموظفين مصطفين يسلمون علينا ونرد عليهم، ثم أخذونا إلى غرفة كبيرة عرفنا بعد ذلك أنها غرفة التحقيق. ولما جلست في الغرفة قالوا: يا سيد! أتسمح لنا أن نسألك؟ قلت: تفضلوا، قالوا: أنتم تُدَرِّسون في قم بعض الأشخاص، فهل تسمي لنا من يدرس عندكم؟

قلت: ليس من طريقتي أن أضع كشفاً للأسماء حتی أعرف الذین یحضرون الدرس فدرسنا مفتوح مثل المسجد، وهو مفتوح لمن أراد الحضور والفائدة، فيصعب حصرهم أو تحديدهم.

قالوا: من يصلي خلفكم؟

قلتُ: الأحسن لإمام الجماعة أن يكون متوجهاً إلى الله وليس إلى المأمومين، فما عِلْمي بمن يُصلِّي خلفي؟

علمتُ من خلال أسئلتهم أنهم يريدون أن يعرفوا كل من له علاقة بي أو یحضر درسي. ثم قالوا: إذا جئتَ إلى طهران فمن تزور؟ قلت: أذهب إلى منزل أي شخص يدعوني، قالوا: إذا لم يدعك أحد فإلى أين تذهب؟ قلت: إلى المدرسة. قالوا: أي مدرسة؟ قلت: إلى أي مدرسة بابها مفتوح.

قالوا: إذا تركناك الليلة فأين تذهب؟ قلت: إذا تركتموني سأذهب إلى بيتي، وهنا تحدث أحدهم مع الآخر بأنهم لن يخرجوا مني بشيء بهذه الطريقة، بعد ذلك جاءوا بتقرير لأوقّع عليه، فسألت: ما هذا؟ قالوا: هذ هو الأمر بتوقيفكم، قلت: لا يوقع على توقيفه إلا أحمق، قالوا: اكتب أن لديك اعتراضاً، فكتبت.

ثم اقترب وقت المغرب فأخذونا إلى غرفة بجوار الإدارة وأوقفونا هناك، فأذّن السيد الواحدي للمغرب، وأقمت فيهم الصلاة جماعة، وجاء بعض التجار الموقوفين وكانوا مقربين من الكاشاني فصلوا معنا، وبعد الصلاة بينت لهم الحقائق الدينية، وكان هناك في الغرفة الملاصقة لغرفتنا بعض الدهريين الملاحدة والشیوعیین، فأرسلوا لي رسالة بأنهم يريدون أن يلتقوا بي فوافقت؛ فقال بعض الذين معنا -وهم أناس ليس على ظاهرهم التدين-: نخشى أن نُتَّهم بأننا شیوعیون إذا جالسناهم، فقلت: من سيتهمكم؟ لا تخافوا من أحد، دعوهم ليأتوا إلينا. والحاصل، أنهم جاؤوا إلينا ولما تعرفوا عليَّ أبدوا سرورهم بأنهم وجدوا عالماً شجاعاً يعارض النظام المتجبِّر، فحاورناهم بكل لطف وتودُّد، ووضَّحنا لهم بعض الإشكالات التي لديهم حول الإسلام وقوانينه.

جلسنا عدة أيام في هذا التوقيف ثم جاء ضابط برتبة عقيد من قِبَل الشاه وطلب منا أن نكتب الأمور التي تحدثتُ عنها في قم، وأن أبين مطالبنا.

في الحقيقة تعجبت من هذه الدولة وهذا التلاعب بالناس! إذا كانت الدولة لا تعرف ما قلناه فلماذا سجنونا؟!

ذكرت للمسؤول أننا لم نتكلم عن الملك ولا الوزیر، فقال: اكتب أي شيء، وأصر الذين معي أن أكتب شيئاً، عندها أخذت ورقة وكتبت:

«بسم الله الرحمن الرحيم. إن السلاطين المتقدمين كانوا إذا نجوا من خطر فكّوا الأسرى، وهذا ما تكلمت عنه، حيث ذكرت أن البعض أراد قتل الملك في الجامعة فلم یظفروا بذلك، وعِوَضاً عن ذلك أخذوا بعض العلماء المجتهدين الصالحين ومنهم السيد الكاشاني وأصحابه، ومنهم الفقير إلى ربه - كاتب هذه السطور- وبهذا الاتهام أوقفونا، فما معنی هذا العمل؟ والسلام».

لما رأى الضابط والحاضرون كتابي هذا قالوا: أحسنت. وأخذوا كتابي ثم رجعوا في اليوم الثاني وأخبرونا أنَّ الشاه أمر بإطلاق سراح الشيخ القمي - أي: البرقعي- ورفقائه، فأطلقوا سراحي وسراح السيد الواحدي وشخص اسمه: حاجي حسن، وكذلك أصدقاء الكاشاني الذين معنا في السجن، ثم جاءوا بسيارة وسألونا: أين تريدون أن نذهب بكم؟! وقالوا: إن السيد إمام جُمعة طهران قد دعاكم، وكذلك السيد البهبهاني.

قلت: لا نريد أن نذهب إلى منزلهما، بل اتركونا في وسط ميدان توبخانة، ونحن سنذهب حيث نريد. وأنا قلت ذلك لأني كنت على خلاف شديد مع المشايخ الرسميين ومنهم إمام الجمعة والبهبهاني.

عندما تركونا في توبخانة ودّعنا من كان معنا ثم تفرقنا، فتوجهت إلى منزل السيد الكاشاني، وكان مجتهداً شجاعاً ونبيهاً، ومع أنه كان قد أُبعد من البلاد إلى لبنان إلا أن أسرته رحبت بي وفرحوا بمجيئي إليهم فرحاً كبيراً.

[51] المدرسة الفيضية: تعد مركز إدارة الحوزة العلمية في قم، ويعود تأسيسها إلى العهد الصفوي. [52] خرم آباد: مدينة في محافظة لرستان في إيران، تقع غرب طهران على نحو 217 ميلاً. [53] سيأتي تعريف المؤلف بجماعة فدائيي الإسلام.