الإسلام أصوله و مبادؤه

فهرس الكتاب

خلق الإنسان وتكريمه

خلق الإنسان وتكريمه

قضى الله أن يخلق خلقاً جديراً بعمارة هذا الكون؛ فكان هذا المخلوق هو الإنسان، واقتضت حكمته سبحانه أن تكون المادة التي يخلق منها الإنسان هي الأرض، وبدأ خلقه من طين، ثم صوره على هذه الصورة الحسنة التي عليها الإنسان، فلما استوى متكاملاً في شكله، نفخ فيه من روحه؛ فإذا هو إنسان في أحسن تقويم يسمع ويبصر ويتحرك ويتكلم، فأسكنه ربه جنته، وعلمه كل ما يحتاج إلى معرفته، وأباح له كل ما في هذه الجنة، ونهاه عن شجرة واحدة -ابتلاءً وامتحاناً- وأراد الله أن يظهر منزلته ومكانته؛ فأمر ملائكته بالسجود له، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس امتنع عن السجود تكبراً وعناداً، فغضب عليه ربه، لمخالفة أمره، وطرده من رحمته؛ لأنه تكبر عليه، فطلب إبليس من ربه أن يمد في عمره وأن يمهله إلى يوم القيامة؛ فأمهله ربه ومد في عمره إلى يوم القيامة، وحسد الشيطانُ آدم، لما فضل عليه هو وذريته، وأقسم بربه أن يغوي جميع بني آدم وأنه سيأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، إلا عباد الله المخلصين الصادقين المتقين، فإن الله عصمهم من كيد الشيطان ومكره، وحذر الله آدم من كيد الشيطان، فوسوس الشيطان لآدم وزوجه حواء؛ ليخرجهما من الجنة، وليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما، وأقسم لهما إني لكما ناصحاً، وأن الله لم ينهكما عن تلك الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.

فأكلا من تلك الشجرة التي نهى الله عنها، فكان أول ما أصابهما من عقوبة على مخالفة أمر الله أن بدت لهما سوءاتهما، فذكرّهما ربهما بتحذيره لهما من كيد الشيطان، فاستغفر آدم ربه، فغفر له وتاب عليه واجتباه وهداه، وأمره أن يهبط من الجنة التي كان يسكنها إلى الأرض؛ إذ هي مستقرة، وفيها متاعه إلى حين، وأخبره أنه منها خلق وعليها يعيش وفيها يموت، ومنها يبعث.

فهبط آدم إلى الأرض هو وزوجه حواء، وتناسلت ذريتهما، وكانوا يعبدون الله وفق ما أمرهم، إذ كان آدم نبياً.

وقد أخبرنا الله هذا الخبر فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ ١١ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ ١٢ قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ ١٣ قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٤ قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ١٥ قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ١٦ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ ١٧ قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ ١٨ وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩ فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ ٢٠ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ ٢١ فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٢٢ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٢٣ قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ٢٤ قَالَ فِيهَا تَحۡيَوۡنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنۡهَا تُخۡرَجُونَ٢٥ [الأعراف: 11-25].

وحينما تتأمل عظيم صنع الله لهذا الإنسان؛ حيث خلقه في أحسن تقويم، وألبسه خِلَع الكرامة كلها من: العقل، والعلم، والبيان، والنطق، والشكل، والصورة الحسنة، والهيئة الشريفة، والجسم المعتدل، واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر، واقتناص الأخلاق الشريفة الفاضلة من: البر، والطاعة، والانقياد، فكم بين حاله وهو نطفة داخل الرحم مستودع هناك، وبين حاله والملك يدخل عليه في جنات عدن؟ ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ١٤ [المؤمنون: 14].

فالدنيا قرية، والإنسان ساكنها والكل مشغول به، ساع في مصالحه، والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه، فالملائكة الموكلون به يحفظونه آناء الليل وأطراف النهار، والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه، والأفلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه، والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته، والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه، وسحابه وطيره وما أودع فيه، والعالم السفلي كله مسخرٌ له، مخلوق لمصالحه، أرضه وجباله، وبحاره وأنهاره، وأشجاره وأثماره، ونباته وحيوانه وكل مافيه كما قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ٣٤ [إبراهيم: 32-34][15]، ومن تمام تكريمه أن خلق له جميع ما يحتاج إليه في حياته الدنيا، وما يحتاج إليه من الوسائل التي تبلغه الدرجات العلى في الدار الآخرة؛ فأنزل إليه كتبه، وأرسل إليه رسله، يبينون له شرع الله ويدعونه إليه.

ثم خلق له من نفسه -أي من نفس آدم- زوجاً يسكن إليه، ملبياً لحاجاته الفطرية -نفسية وعقلية وجسدية- بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما الجسدي والنفسي والعصبي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما لإنشاء جيل جديد، وأودعت نفوسهما هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكناً للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقراراً للحياة والمعاش، وأنساً للأرواح والضمائر، واطمئناناً للرجل والمرأة على السواء.

واختص الله المؤمنين من بين بني الإنسان، فجعلهم أهل ولايته، استخدمهم في طاعته، يعملون له وفق شريعته؛ ليكونوا أهلاً لمجاورة ربهم في جنته. اصطفى منهم الأولياء والشهداء والأنبياء والمرسلين، ومنحهم في هذه الدنيا أعظم نعمة تنعم بها النفوس ألا وهي: عبادة الله وطاعته ومناجاته، واختصهم بنعم عظيمة -لا يجدها غيرهم- منها الأمن والطمأنينة والسعادة، بل أعظم من ذلك أنهم يعلمون الحق الذي جاء به المرسلون ويؤمنون به، وادّخر لهم -في الدار الآخرة- من النعيم المقيم والفوز العظيم، ما يليق بكرمه سبحانه، ويكافيء إيمانهم به وإخلاصهم له.

[15] مفتاح دار السعادة، جـ1 ص 327،328، والآيات من سورة إبراهيم 32،34.