ختم النبوة
تبين لك فيما سبق حقيقة النبوة، وأعلامها وآياتها، ودلائل نبوة نبينا محمد ﷺ، وقبل الحديث عن ختم النبوة فلابد أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يرسل رسولاً إلا لأحد الأسباب التالية:
1- أن تكون رسالة النبي خاصة بقوم ولم يؤمر هذا الرسول أن يبلغ رسالته إلى الأمم المجاورة فيرسل الله رسولاً آخر برسالة خاصة إلى أمة أخرى.
2- أن تكون رسالة النبي المتقدم قد اندرست، فيبعث الله نبياً يجدد للناس دينهم.
3- أن تكون شريعة النبي المتقدم صالحة لزمانها، وغير مناسبة للأزمنة اللاحقة فيبعث الله رسولاً يحمل رسالة وشريعة تناسب الزمان والمكان، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن يبعث محمداً ﷺ برسالة عامة لأهل الأرض، مناسبة لكل زمان ومكان، وحفظها من أيدي التغيير والتبديل؛ لتبقى رسالته حية يحيا بها الناس، نقية من شوائب التحريف والتبديل، ولأجل ذلك جعلها الله خاتمة الرسالات [68].
وإن مما خص الله به محمداً ﷺ أنه خاتم الأنبياء فلا نبي بعده؛ لأن الله أكمل به الرسالات، وختم به الشرائع، وأتم به البناء، وتحقق بنبوته بشارة المسيح به حيث قال: (أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأساً للزاوية)[69]، وقد اعتبر القس إبرهيم خليل - الذي أسلم فيما بعد - هذا النص موافقاً لقول محمد ﷺ عن نفسه: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)[70].
ولأجل ذلك جعل سبحانه الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ مهيمناً على الكتب السابقة، وناسخاً لها، كما جعل شريعته ناسخة لكل الشرائع المتقدمة، وتكفل الله بحفظ رسالته؛ فَنُقِلَتْ نقلاً متواتراً، حيث نقل القرآن الكريم نقلاً متواتراً صوتاً ورسماً، كما نُقِلَتْ سنته القولية والفعلية نقلاً متواتراً، ونقل التطبيق الفعلي لشرائع هذا الدين وعباداته وسننه وأحكامه نقلاً متواتراً.
ومن اطلع على دواوين السيرة والسنة علم أن صحابته رضوان الله عليهم قد حفظوا للبشرية سائر أحواله ﷺ وجميع أقواله وأفعاله، فنقلوا عبادته لربه وجهاده وذكره له سبحانه واستغفاره، وكرمه وشجاعته، ومعاشرته لأصحابه وللوافدين عليه، كما نقلوا فرحه وحزنه، وظعنه وإقامته، وصفة مأكله ومشربه وملبسه، ويقظته ومنامه.. فإذا استشعرت ذلك؛ أيقنت أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له، وعلمت -حينئذ- أنه خاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأن الله سبحانه أخبرنا أن هذا الرسول هو خاتم الأنبياء فقال سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَ﴾ [الأحزاب: 40]، وقال ﷺ عن نفسه: (وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) [71].
وهذا آوان التعريف بالإسلام وبيان حقيقته ومصادره وأركانه ومراتبه.
[68] انظر لما سبق العقيدة الطحاوية، ص 156، ولوامع الأنوار البهية، جـ2، ص 269،277، ومبادئ الإسلام، ص 64. [69] إنجيل متى 21: 42. [70] انظر محمد ﷺ في التوراة والإنجيل والقرآن، تأليف المهتدي إبراهيم خليل أحمد ص 73. والحديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب 18 واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل حديث 2286 من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وهو في المسند، ج2، ص 256،312. [71] رواه الإمام أحمد في مسنده، ج 2، ص 411،412، ورواه مسلم في كتاب المساجد واللفظ له حديث 523.