أ - القرآن العظيم
علمت فيما سبق أن الإسلام هو دين الله، ولأجل ذلك أنزل الله القرآن على رسوله محمد ﷺ هدى للمتقين، ودستوراً للمسلمين، وشفاءً لصدور الذين أراد الله لهم الشفاء، ونبراساً لمن أراد الله لهم الفلاح والضياء، وهو مشتمل على ألاصول التي بعث الله من أجلها الرسل[79]، ولم يكن القرآن بدعاً من الكتب، كما لم يكن محمد ﷺ بدعاً من الرسل؛ فقد أنزل الله على إبراهيم صحفاً، وأكرم موسى بالتوراة، وداود بالزبور، وجاء المسيح بالإنجيل. وهذه الكتب وحي من الله أوحاه إلى أنبيائه ورسله، ولكن هذه الكتب المتقدمة فُقِد كثير منها، واندرس معظمها، ودخلها التحريف والتبديل.
أما القرآن العظيم فقد تكفل الله بحفظه، وجعله مهيمناً وناسخاً لما سبقه من الكتب قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمُهَيۡمِنًا عَلَيۡهِ﴾ [المائدة: 48]، ووصفه الذي أنزله بأنه تبياناً لكل شيء فقال جل ثناؤه: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ﴾ [النحل: 89]، وأنه هدى ورحمة فقال عز من قائل: ﴿فَقَدۡ جَآءَكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ﴾ [الأنعام: 157]، وأنه يهدي للتي هي أقوم: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فهو يهدي البشرية لأقوم سبيل في كل شأن من شؤون حياتها.
وهذا القرآن آية باقية لمحمد ﷺ - ضمن آيات باقيات إلى يوم القيامة- فقد كانت آيات الأنبياء السابقين ومعجزاتهم تنتهي بانتهاء حياتهم، أما هذا القرآن فقد جعله الله حجة باقية.
وهو الحجة البالغة، والآية الباهرة تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة من سوره، فعجزوا على الرغم من أنه يتكون من حروف وكلمات، والأمة التي أنزل عليها هي أمة الفصاحة والبلاغة، قال تعالى: ﴿أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٣٨﴾ [يونس: 38].
ومما يشهد لهذا القرآن أنه وحي من عند الله، أنه تضمن أخباراً كثيرة عن الأمم السابقة، وتنبأ عن حوادث مستقبلية وقعت كما أخبر، وذكر من البراهين العلمية الشيء الكثير مما لم يتوصل العلماء إلى بعضه إلا في هذا العصر. ومما يشهد لهذا القرآن -أيضاً- أنه وحي من عندالله أن النبي الذي أنزل عليه هذا القرآن لم يعهد عنه مثله ولم ينقل عنه ما يشابهه قبل تنزل القرآن قال تعالى: ﴿قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ١٦﴾ [يونس: 16]، بل كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يتردد على شيخ، ولم يجلس إلى معلم ومع ذلك يتحدى الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بمثله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ٤٨﴾ [العنكبوت: 48]، وهذا الرجل الأمي الذي وصف في التوراة والإنجيل بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب يأتي إليه أحبار اليهود والنصارى -الذين لديهم بقايا من التوراة والإنجيل- يسألونه عما يختلفون فيه، ويحتكمون إليه فيما يتشاجرون فيه، قال تعالى موضحاً خبره في التوراة والإنجيل: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى مبيناً سؤال اليهود والنصارى لمحمد ﷺ: ﴿يَسَۡٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾ [النساء: 153]، وقال جل ثناؤه: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ﴾ [الإسراء: 85]، وقال سبحانه: ﴿وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِ﴾ [الكهف: 83]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ٧٦﴾ [النمل: 76].
ولقد حاول القس إبراهيم فيلبس في إطروحة الدكتوراة النيل من القرآن فعجز عن ذلك وقهره القرآن بحججه وبراهينه ودلائله فأعلن عجزه، واستسلم لخالقه وأعلن اسلامه[80].
وحينما أهدى أحد المسلمين نسخة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الدكتور الأمريكي جفري لانغ وجد أن هذا القرآن يخاطب نفسه، ويجيب على أسئلته، ويزيل الحوجز التي بينه وبين نفسه، بل قال: (إن الذي أنزل القرآن كأنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي) [81]، كيف لا؟ والذي أنزل القرآن هو الذي خلق الإنسان، وهو الله سبحانه، ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ١٤﴾ [الملك: 14]. ثم كانت قراءته لترجمة معاني القرآن الكريم سبباً في إسلامه وتأليفه لهذا الكتاب الذي نقلت لك منه.
والقرآن العظيم شامل لكل ما يحتاج إليه البشر، فهو شامل لأصول القواعد والعقائد والأحكام والمعاملات والآداب قال تعالى: ﴿مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖ﴾ [الأنعام: 38]، ففيه الدعوة إلى توحيد الله، وذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، ويدعو إلى صحة ما جاء به الأنبياء والمرسلين، ويقرر المعاد والجزاء والحساب ويقيم الحجج والبراهين على ذلك، ويذكر أخبار الأمم الماضية وما حل بها من المثلات في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب والنكال في الآخرة.
وفيه من الآيات والدلائل والبراهين الشيء الكثير مما يدهش العلماء، ويناسب كل عصر، ويجد فيه العلماء والباحثون ضالتهم، وسأذكر لك ثلاثة أمثلة فقط تكشف لك شيئاً من ذلك وهذه الأمثلة هي:
1- قوله تعالى: ﴿۞وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا٥٣﴾ [الفرقان: 53]، وقال عز شأنه: ﴿أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ٤٠﴾ [النور: 40].
ومن المعلوم أن محمداً ﷺ لم يركب البحر، ولم يكن في عصره الوسائل المادية التي تعين على اكتشاف أعماق البحر. فمن الذي أخبر محمداً ﷺ بهذه المعلومات إلا الله.
2- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن طِينٖ ١٢ ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ ١٣ ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ١٤﴾ [المؤمنون: 12-14]، ولم يكتشف العلماء هذه التفاصيل الدقيقة عن مراحل خلق الجنين إلا في هذا العصر.
3- قال تعالى: ﴿۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ٥٩﴾ [الأنعام: 59]، فلم تعتد البشرية هذا التفكير الشامل ولا تفكر فيه، فضلاً عن أن تستطعيه، بل إذا رصد فريق من العلماء نبتة أو حشرة وسجلوا ما عرفوا عنها تملكنا الإعجاب لذلك، علماً أن ما خفي عليهم من حالها أكثر مما رصدوه.
وقد قارن العالم الفرنسي موريس بوكاي بين التوراة والإنجيل والقرآن، وبين ما توصلت إليه الاكتشافات الحديثة فيما يتعلق بخلق السموات والأرض وخلق الإنسان؛ فوجد أن الاكتشافات المعاصرة موافقة لما ورد في القرآن، بينما وجد التوراة والإنجيل المتداولة اليوم متضمنة لمعلومات كثيرة خاطئة عن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان[82].3
[79] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، تأليف مصطفى السباعي، ص 376. [80] انظر المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي، تأليف إبراهيم خليل أحمد. [81] الصراع من أجل الإيمان، تأليف د.جفري لانغ ترجمة د. منذر العبسي نشر دار الفكر، ص 34. [82] انظر كتاب التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة. ص 133-283، تأليف موريس بوكاي، كان طبيباً فرنسياً نصرانياً ثم أسلم.