حقيقة النبوة
إن أعظم ما يجب على الإنسان أن يعلمه في هذه الحياة؛ معرفة ربه الذي أوجده من عدم، وأسبغ عليه النعم، وإن أعظم غاية خلق الله الخلق لأجلها هي عبادته وحده سبحانه.
ولكن كيف يعرف الإنسان ربه حق معرفته؟ وما يجب له من الحقوق والواجبات وكيف يعبد ربه؟ إن الإنسان يجد من يعينه على نوائب دهره، ويقضى له مصالحه من علاج مرض، وتقديم دواء، وإعانة على بناء مسكن وما شابه ذلك.. ولكنه لن يجد في سائر الناس من يعرّفه بربه، ويبين له كيف يعبد ربه؛ لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة مراد الله منها؛ إذ العقل البشري أضعف من أن يدرك مراد بشر مثله قبل أن يخبره بمراده، فكيف بمعرفة مراد الله، ولأن هذه المهمة مقصورة على الرسل والأنبياء الذين يصطفيهم الله لإبلاغ الرسالة وعلى من بعدهم من أئمة الهدى، ورثة الأنبياء، الذين يحملون منهاجهم، ويقتفون آثارهم، ويبلغون عنهم رسالتهم؛ لأن البشر لا يمكن أن يتلقوا عن الله مباشرة، وهم لا يستطيعون ذلك، قال تعالى: ﴿۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ٥١﴾ [الشورى: 51]، فلابد من واسطة وسفير يبلغ عن الله شرعه إلى عباده، وهؤلاء السفراء والوسطاء هم الرسل والأنبياء، فيحمل الملك رسالة الله إلى النبي، فيبلغها الرسول إلى الناس، ولايحمل الملك الرسالات إلى الناس مباشرة؛ لأن عالم الملائكة يختلف عن عالم الناس في طبيعته، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الحج: 75].
وقد اقتضت حكمته سبحانه أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليفقهوا عنه، ويفهموا منه لتَمَكُنِهم من مخاطبته ومكالمته، ولو بعث الرسول من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه [43]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ مَلَكٞۖ وَلَوۡ أَنزَلۡنَا مَلَكٗا لَّقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ ٨ وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكٗا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلٗا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ٩﴾ [الأنعام: 8-9]، وقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ...﴾ إلى أن قال: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوّٗا كَبِيرٗا٢١﴾ [الفرقان: 20-21].
قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡ﴾ [النحل: 43]، وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمۡ﴾ [إبراهيم: 4]، ويتصف هؤلاء الرسل والأنبياء بكمال العقل، وسلامة الفطرة، والصدق في القول والعمل، والأمانة في تبليغ ما عُهِد إليهم، والعصمة من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة الأبدان مما تنبو عنه الأبصار، وتنفر منه الأذواق السليمة [44]، وقد زكاهم الله في أنفسهم وأخلاقهم، فهم أكمل الناس خلقاً، وأزكاهم أنفساً، وأكرمهم يداً، جمع الله لهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، كما جمع لهم الحلم والعلم، والسماحة والكرم والجود، والشجاعة والعدل.. حتى تميزوا في هذه الأخلاق بين أقوامهم، فهؤلاء قوم صالح يقولون له -كما أخبر الله عنهم-: ﴿قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا﴾ [هود: 62]، وقال قوم شعيب لشعيب: ﴿أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ٨٧﴾ [هود: 87]، واشتهر محمد ﷺ في قومه بلقب "الأمين" قبل أن تتنزل عليه الرسالة ووصفه ربه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ٤﴾ [القلم: 4].
فهم خيرة الله من خلقه، اصطفاهم واختارهم لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥ﴾ [الأنعام: 124]، وقال تعالى: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٣٣﴾ [آل عمران: 33].
وهؤلاء الرسل والأنبياء وعلى الرغم مما وصفهم الله به من صفات سامية، وعلى الرغم مما اشتهروا به من صفات عالية؛ إلا أنهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر البشر فهم يجوعون ويمرضون وينامون ويأكلون ويتزوجون ويموتون قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ٣٠﴾ [الزمر: 30]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗ﴾ [الرعد: 38]، بل ربما اضطهدوا أو قتلوا أو أخرجوا من ديارهم قال تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ٣٠﴾ [الأنفال: 30]، ولكن العاقبة والنصر والتمكين لهم في الدنيا والآخرة: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ﴾ [الحج: 40]. وقال سبحانه: ﴿كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغۡلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِيٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ٢١﴾ [المجادلة: 21].
[43] تفسير القرآن العظيم، تأليف أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي جـ3، ص 64. [44] انظر لوامع الأنوار البهية، ج2، ص265-305، والإسلام، تأليف أحمد شلبي، ص 114.