الإسلام أصوله و مبادؤه

فهرس الكتاب

التوبة

قال ﷺ: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)[114]، والإنسان ضعيف في نفسه، وضعيف في همته وعزمه، ولا يستطيع أن يحتمل تبعة ذنبه وخطيئته، فخفف الله على الإنسان رحمة به؛ فشرع له التوبة، وحقيقة التوبة: ترك الذنب لقبحه -خوفاً من الله، ورجاءً لما أعده لعباده- والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما بقي بالأعمال الصالحة[115]، فهي كما ترى عمل قلبي صرف بين العبد وبين ربه، لا تعب عليه ولا نصب، ولا معاناة عمل شاق؛ إنما هو عمل القلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة[116].

فلا تحتاج لأن تتوب على يد بشر يفضح أمرك، ويكشف سترك ويستغل ضعفك؛ إنما هي مناجاة بينك وبين ربك، تستغفره وتستهديه فيتوب عليك.

فليس في الإسلام خطيئة موروثة، ولا مخلّص منتظر من البشر، بل كما وجدها اليهودي النمساوي المهتدي محمد أسد حيث قال: (لم أستطع أن أجد في أيما مكان في القرآن أيما ذكر لحاجة إلى "الخلاص" ليس هناك في الإسلام من خطيئة أولى موروثة تقف بين الفرد ومصيره؛ ذلك أنه ﴿لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ٣٩ [النجم: 39]، ولا يطلب من الإنسان أن يقدم قرباناً أو يقتل نفسه لتفتح له أبواب التوبة ويتخلص من الخطيئة) [117]، بل كما قال تعالى: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ٣٨ [النجم: 38].

وللتوبة آثار وثمار عظيمة نذكر منها:

1- أن يعرف العبد سعة حلم الله وكرمه في ستره، وأنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده، فلم يطب له معهم عيش، بل جلله بستره، وغشاه بحلمه، وأمده بالحول والقوة، والرزق والقوت.

2- أن يعرف حقيقة نفسه، وأنها نفس أمارة بالسوء، وأنما صدر منها من خطيئة وذنب وتقصير فهو دليل على ضعف النفس وعجزها عن الصبر عن الشهوات المحرمة، وأنه لا غنى بها عن الله -طرفة عين- ليزكيها ويهديها.

3- شرع سبحانه التوبة ليستجلب بها أعظم أسباب سعادة العبد وهو اللجوء إلى الله والاستعانة به، كما يستجلب بها أنواع الدعاء والتضرع والابتهال والفاقة والمحبة والخوف والرجاء، فتقرب النفس من خالقها قرب خاص لم يكن ليحصل لها بدون التوبة واللجوء إلى الله.

4- أن يغفر الله له ما سلف من ذنبه، قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ [الأنفال: 38].

5- أن تبدل سيئات الإنسان حسنات قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّ‍َٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا٧٠ [الفرقان: 70].

6- أن يعامل الإنسان بني جنسه - في إساءتهم إليه، وزلاتهم معه- بما يحب أن يعامله الله به في إساءته وزلاته وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل، فإذا عامل الناس بهذه المعاملة الحسنة، تعرّض لمثلها من ربه تعالى، وأنه سبحانه يقابل إساءته وذنوبه بإحسانه، كما كان هو يقابل إساءة الخلق إليه.

7- أن يعلم أن نفسه كثيرة الزلات والعيوب، فيوجب له ذلك الإمساك عن عيوب الخلق، ويشتغل بإصلاح نفسه عن التفكر في عيوب الآخرين[118].

وأختم هذه الفقرة بخبر رجل جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ما تركت حاجة ولا داجة إلا قد أتيت قال: أليس تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ ثلاث مرات. قال: نعم. قال: ذاك يأتي على ذاك، وفي رواية: فإن هذا يأتي على ذلك كله) [119].

وفي رواية أنه أتى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يشرك بالله تعالى شيئاً، وهو في ذلك لا يترك حاجة أو داجة إلا اقتطعها بيمنه، فهل لذلك من توبة؟ قال: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله ﷺ. قال: نعم! تفعل الخيرات، وتترك السيئات؛ فيجعلهن الله عزوجل لك خيرات كلهن. قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم. قال: الله أكبر. فما زال يكبر حتى توارى [120].

فالإسلام يجب ما قبله، والتوبة الصادقة تمحو ما قبلها، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي ﷺ.

[114] رواه الإمام أحمد في مسنده، جـ3، ص 198، والترمذي في سننه في أبواب صفة القيامة جـ4، ص49، وابن ماجه في كتاب الزهد، جـ4، ص 491. [115] المفردات في غريب القران، ص 76، بتصرف يسير. [116] الفوائد، لابن القيم، ص 116. [117] الطريق إلى الإسلام، محمد أسد، ص 140، بتصرف يسير. [118] انظر مفتاح دار السعادة، جـ 1 ص 358،370. [119] رواه أبو يعلى في مسنده، جـ 6، ص 155، والطبراني في المعجم الأوسط جـ 7، ص132، والصغير، جـ 2، ص 201، والضياء في المختارة جـ 5،151،152، وقال: إسناده صحيح، وقال في المجمع جـ 10، ص 83: رواه أبو يعلى والبزار بنحوه والطبراني في الصغير والأوسط ورجالهم ثقات. [120] رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، جـ 5، ص 188، والطبراني في الكبير جـ7، ص53، وص314، وقال الهيثمي في المجمع جـ 1، ص 32: رواه الطبراني والبزار بنحوه، ورجال البزار رجال الصحيح، غير محمد بن هرون أبي نشيط وهو ثقة.