حاجة الناس إلى الرسل
الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده يبلغونهم أوامره، ويبشرونهم بما أعد الله لهم من النعيم إن هم أطاعوا أوامره، ويحذرونهم من العذاب المقيم إن هم خالفوا نهيه، ويقصون عليهم أخبار الأمم الماضية وما حل بها من العذاب والنكال في الدنيا بسبب مخالفتها أمر بها.
وهذه الأوامر والنواهي الإلهية لا يمكن أن تستقبل العقول بمعرفتها؛ ولذلك شرع الله الشرائع وفرض الأوامر والنواهي؛ تكريماً لبني الإنسان وتشريفاً لهم وحفظاً لمصالحهم؛ لأن الناس قد ينساقون وراء شهواتهم فينتهكون المحرمات ويتطاولون على الناس فيسلبونهم حقوقهم، فكان من الحكمة البالغة أن يبعث الله فيهم بين آونة وأخرى رسلاً يذكِّرونهم أوامر الله، ويحذرونهم من الوقوع في معصيته، ويتلون عليهم المواعظ ويذكرون لهم أخبار السابقين، فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع، والمعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان، استمدتها العقول فزاد علمها، وصح فهمها، وأكثر الناس سماعاً أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً، وأكثرهم تفكراً أكثرهم علماً، وأكثرهم علماً أكثرهم عملاً. فلم يوجد عن بعثة الرسل معدل ولا منهم في انتظام الحق بدل [47].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية[48]، -رحمه الله- والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فالإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي الذي يبين ما ينفعه وما يضره، فهو نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً.
وليس المراد بالشرع التمييز بين النافع والضار بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات فإن الحمار والجمل يفرق ويميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، والأفعال التي تنفعه في معاشه ومعاده كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والعلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع أقداره، والتسليم لحكمه، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به وغير ذلك مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل المنافع والمضار في المعاش، فمن أعظم نعم الله على عباده، وأشرف مننه عليهم، أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام وأشر حالاً منها، فمن قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهم من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير وأحقر من كل حقير، ولا بقاء لأهل الأرض إلا بآثار الرسالة الموجودة فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض، وانمحت معالم هداهم؛ أخرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة.
وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين فبعثه الله رحمة للعالمين، وحجة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتوقيره وتعزيره والقيام بأداء حقوقه، و أخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتّبَاعِه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعلّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام به الملة العوجاء، وأوضح به المحجة البيضاء، وشرح له صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله ﷺ حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، حين حرف الكلم، وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى ظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطرائق، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وميز به بين أهل الفلاح وأهل الفجور، فمن اهتدى بهديه اهتدى، ومن مال عن سبيله فقد ضل واعتدى، فصلى الله وسلم عليه وعلى سائر الرسل والأنبياء[49].
ونستطيع أن نلخص احتياج الإنسان إلى الرسالة فيما يلي:
1- أنه إنسان مخلوق مربوب، ولابد أن يتعرف على خالقه، ويعرف ماذا يريد منه، ولماذا خلقه، ولا يستقل الإنسان بمعرفة ذلك، ولا سبيل إليه إلا من خلال معرفة الأنبياء والمرسلين، ومعرفة ما جاءوا به من الهدى والنور.
2- أن الإنسان مكون من جسد وروح، وغذاء الجسد ما تيسر من مأكل ومشرب، وغذاء الروح قرره لها الذي خلقها، وهو الدين الصحيح والعمل الصالح، والأنبياء والمرسلون جاءوا بالدين الصحيح، وأرشدوا إلى العمل الصالح.
3- أن الإنسان متدين بفطرته، ولابد له من دين يدين به، وهذا الدين لابد أن يكون صحيحاً، ولا سبل إلى الدين الصحيح إلا من خلال الإيمان بالأنبياء والمرسلين والإيمان بما جاءوا به.
4- أنه محتاج إلى معرفة الطريق الذي يوصله إلى رضى الله في الدنيا، وإلى جنته ونعيمه في الدار الآخرة، وهذه طريق لا يرشد إليها، ويدل عليها إلا الأنبياء والمرسلون.
5- أن الإنسان ضعيف بنفسه، ومتربص به أعداء كثر، من شيطان يريد إغواءه، ورفقة سوء تزين له القبيح، ونفس أمارة بالسوء؛ ولذا فهو محتاج إلى ما يحفظ به نفسه من كيد أعدائه، والأنبياء والمرسلون أرشدوا إلى ذلك وبينوه غاية البيان.
6- أن الإنسان مدني بطبعه، واجتماعه بالخلق ومعاشرته لهم لابد لها من شرع ليقوم الناس بالقسط والعدل-وإلا كانت حياتهم أشبه بحياة الغابة- وهذا الشرع لابد أن يحفظ لكل ذي حق حقه دون تفريط ولا إفراط، ولا يأتي بالشرع الكامل إلا الأنبياء والمرسلون.
7- أنه محتاج إلى معرفة ما يحقق له الطمأنينة والأمن النفسي، ويرشده إلى أسباب السعادة الحقيقية وهذا هو ما يرشد إليه الأنبياء والمرسلون.
وبعد بيان حاجة الخلق إلى الأنبياء والمرسلين يجدر بنا أن نذكر المعاد ونوضح البراهين والأدلة الدالة عليه.
[47] أعلام النبوة، تأليف علي بن محمد الماوردي، ص 33. [48] أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام الشهير بابن تيمية، ولد عام واحد وستين وستمائة وتوفي عام ثمان وعشرين وسبع مائة من الهجرة، وهو من كبار علماء الإسلام له مصنفات كثيرة نفيسة. [49] قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جـ19، ص99-102 من مجموع الفتاوى، وانظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني، جـ2، ص 261-263.