الإسلام أصوله و مبادؤه

فهرس الكتاب

الخاتمة

يا أيها الإنسان

كنت عدماً محضاً قال تعالى: ﴿أَوَ لَا يَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ يَكُ شَيۡ‍ٔٗا٦٧ [مريم: 67]، ثم خلقك الله من نطفة، فجعلك سميعاً بصيراً قال تعالى: ﴿هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡ‍ٔٗا مَّذۡكُورًا ١ إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا٢ [الإنسان: 1-2]، ثم تدرجت من ضعف إلى قوة، ومردك إلى ضعف قال تعالى: ﴿۞ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفٖ قُوَّةٗ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٖ ضَعۡفٗا وَشَيۡبَةٗۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡقَدِيرُ٥٤ [الروم: 54]، ثم النهاية التي لاشك فيها الموت. وأنت في تلك المراحل تنتقل من ضعف إلى ضعف، لا تستطيع أن تدفع عن نفسك الضر، ولا تجلب لنفسك النفع إلا باستعانتك على ذلك بنعم الله عليك من الحول والقوة والقوت، وأنت فقير محتاج من حيث الفطرة، فكم هناك من شيء تحتاج إليه لا ستبقاء حياتك ليس في متناول يدك، وقد تناله مرة، وتسلبه أخرى، وكم هناك من أشياء تنفعك وتريد الحصول عليها، وقد تفوز بها مرة ولا تظفر بها أخرى، وكم من شيء يضرك ويخيب آمالك، ويضيع جهودك ويجلب لك المحن والآفات وتريد دفعه عن نفسك فتدفعه مرة وتعجز أخرى.. ألم تستشعر فقرك وحاجتك إلى الله، والله يقول: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ١٥ [فاطر: 15].

يعترضك فيروس ضعيف لاتراه العين المجردة؛ فيرديك صريع المرض، فلا تستطيع دفعه، وتذهب إلى إنسان ضعيف مثلك ليعالجك، فمرة يصيب الدواء، وتارة يعجز الطبيب فتعم الحيرة المريض والطبيب.

ألا ما أضعفك يا ابن آدم لو سلبك الذباب شيئاً ما استطعت استعادته منه، وصدق الله حيث يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡ‍ٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ٧٣ [الحج: 73]، فإذا كنت لا تستطيع استنقاذ ما سلبك الذباب فماذا تملك من أمرك؟ (ناصيتك بيدالله، ونفسك بيده، وقلبك بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، وحياتك وموتك بيده، وسعادتك وشقاوتك بيده، وحركاتك وسكناتك وأقوالك بإذن الله ومشيئته، فلا تتحرك إلا بإذنه ولا تفعل إلا بمشيئته، إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى عجز وضعف وتفريط وذنب وخطيئة، وإن وكلك إلى غيرك، وكلك إلى من لا يملك لك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فلا غنى لك عنه طرفة عين، بل أنت مضطر إليه على مدى الأنفاس ظاهراً وباطناً، يسبغ عليك النعم، وأنت تتبغض إليه بالمعاصي والكفر مع شدة الضرورة إليه من كل وجه، قد اتخذته نسياً ومردك إليه ومرجعك وموقفك بين يديه) [121].

يا أيها الإنسان: نظراً لضعفك وعجزك عن تحمل تبعات ذنوبك: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا٢٨ [النساء: 28]، أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، ونصب أمامك الطريق المستقيم، وأقام البينات والحجج والشواهد والبراهين، حتى جعل لك في كل شيء آية دالة على وحدانيته وربوبيته وألوهيته، وأنت تدفع الحق بالباطل، وتتخذ الشيطان ولياً من دون الله، وتجادل بالباطل، ﴿وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا٥٤ [الكهف: 54]، أنستك نعمُ الله التي تتقلب فيها بدايَتك ونهايَتك! أوَلا تذكر أنك خلقت من نطفة! ومردك إلى حفرة، ومبعثك إلى جنة أو نار قال تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ٧٩ [يس: 77-79]، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٦ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٧ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ٨ [الانفطار: 6-8].

يا أيها الإنسان! لماذا تحرم نفسك لذة الوقوف بين يدي الله تناجيه؛ ليغنيك من فقر، ويشفيك من مرض، ويفرج كربتك، ويغفر ذنبك، ويكشف ضرك، وينصرك إن ظُلمت، ويدلك إن تحيرت وضللت، ويعلمك ما جهلت، ويؤمّنك إذا خفت، ويرحمك حال ضعفك، ويرد عنك أعدائك، ويجلب لك رزقك[122].

يا أيها الإنسان إن أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان -بعد نعمة الدين- هي نعمة العقل، ليميز به بين ما ينفعه وما يضره، وليعقل عن الله أمره ونهيه، وليعرف به أعظم غاية وهي عبودية الله وحده لا شريك له قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡ‍َٔرُونَ ٥٣ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنكُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ٥٤ [النحل: 53-54].

يا أيها الإنسان! إن الإنسان العاقل يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، ويود أن يقتدي بكل صالح وكريم من الأنبياء والصالحين، وتتطلع نفسه إلى أن يلحق بهم وإن لم يدركهم والسبيل إلى ذلك هو ما أرشد إليه سبحانه بقوله: ﴿إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران: 31]، وإذا امتثل ذلك ألحقه الله بالأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا٦٩ [النساء: 69].

يا أيها الإنسان! إنما أعِظُك بأن تخلو بنفسك ثم تتأمل ما جاءك من الحق، فتنظر في أدلته، وتتدبر براهينه؛ فإن رأيته حقاً فهلم إلى اتباعه، ولا تكن أسير الإلف والعادة، وأعلم أن نفسك أعز عليك من أقرانك وأترابك وميراث أجدادك، وقد وعظ الله الكفار بهذا وندبهم إليه فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ٤٦ [سبأ: 46].

يا أيها الإنسان! إنك حينما تسلم لن تخسر شيئاً قال تعالى: ﴿وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا٣٩ [النساء: 39]، قال ابن كثير رحمه الله: (وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة، وآمنوا بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وانفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها، وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم، فيوفقه ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة) [123]، إن إسلامك لن يحول بينك وبين أي شيء تريد عمله أو تناوله مما أحله الله لك، بل إن الله يأجرك على كل عمل تعمله تبتغي به وجه الله، وإن كان مما يصلح دنياك ويزيد في مالك أو جاهك أو شرفك، بل حتى ما تتناوله من المباحات إذا احتسبت أن تكتفي بالحلال عن الحرام؛ فَلَكَ فيه أجر قال ﷺ: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) [124].

يا أيها الإنسان! إن الرسل جاءوا بالحق، وبلغوا مراد الله، والإنسان محتاج إلى معرفة شرع الله؛ ليسير في هذه الحياة على بصيرة، وليكون في الآخرة من الفائزين، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فَ‍َٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا١٧٠ [النساء: 170]، وقال عز شأنه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ١٠٨ [يونس: 108].

يا أيها الإنسان! إنك إن أسلمت لن تنفع إلا نفسك، وإن كفرت لن تضر إلا نفسك، إن الله غني عن عباده، فلا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، فلن يُعصى إلا بعلمه، ولن يُطاع إلا بإذنه، وقد قال الله كما أخبر عنه نبيه (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) [125].

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[121] بتصرف من الفوائد، لابن القيم، ص 56. [122] انظر مفتاح دار السعادة، جـ1 ص 251. [123] بتصرف يسير من تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 497. [124] تقدم تخريجه، ص91. [125] رواه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم ح 2577.