الثالث: الإيمان بالكتب
الإيمان بأن الله أنزل كتباً على أنبيائه ورسله؛ لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25]، وهذه الكتب كثيرة منها: صحف إبراهيم، والتوراة التي أوتيها موسى، والزبور الذي أرسل به داود، والإنجيل الذي جاء به المسيح عليهم السلام.
وهذه الكتب التي أخبرنا الله عنها اندثرت فلم يبق لصحف إبراهيم وجود في الدنيا، أما التوراة والإنجيل والزبور فإنها وإن كانت توجد بأسمائها عند اليهود والنصارى إلا أنها حرفت وبدلت وفقد الكثير منها، ودخل فيها ما ليس منها، بل نسبت إلى غير أصحابها، فالعهد القديم فيه أكثر من أربعين سفراً، وينسب إلى موسى خمسة فقط، والأناجيل الموجودة اليوم لا ينسب واحد منها إلى المسيح.
فالإيمان بهذه الكتب السابقة أن تؤمن أن الله أنزلها على رسله، وأنها تضمنت الشرع الذي أراد الله إبلاغه إلى الناس في ذلك الزمان.
أما آخر الكتب التي أنزلت من عند الله فهو القرآن العظيم الذي أنزله على محمد ﷺ، ولا يزال محفوظاً بحفظ الله لم يطرأ عليه تغيير أو تبديل في حروفه أو كلماته أو حركاته أو معانيه. 5
والفرق بين القرآن العظيم وبين هذه الكتب الماضية من وجوه كثيرة منها:
1- أن هذه الكتب الماضية قد ضاعت ودخلها التحريف والتبديل، ونسبت إلى غير أصحابها، وأضيف إليها شروحات وتعليقات وتفاسير، وتضمنت من الأمور المنافية للوحي الإلهي والعقل والفطرة الشيء الكثير.
أما القرآن الكريم فهو لا يزال محفوظاً بحفظ الله، بنفس الأحرف والكلمات التي أنزلها الله على محمد ﷺ، لم يطرأ عليه تحريف ولم يدخله زيادة؛ إذ حرص المسلمون على أن يبقى القرآن الكريم خالصاً من كل شائبة، فلم يخلطوه بغيره من سيرة الرسول ﷺ أو سيرة الصحابة رضي الله عنهم أو تفسير القرآن الكريم أو أحكام العبادات والمعاملات.
2- أن الكتب القديمة لا يعرف لها اليوم سند تاريخي، بل بعضها لا يعرف على من نزلت ولا بأي لغة كتبت، بل قسم منها نسب إلى غير من جاء به.
أما القرآن فنقله المسلمون عن محمد ﷺ نقلاً متواتراً شفهياً وكتابياً، ولدى المسلمين في كل عصر ومصر آلاف الحفاظ لهذا الكتاب وآلاف النسخ المكتوبة منه، وما لم تتفق النسخ الشفهية منه مع النسخ المكتوبة فلا يعتد بالنسخ المخالفة، فلابد أن يتوافق ما في الصدور بما في السطور.
وفوق ذلك فإن القرآن نقل نقلاً شفهياً لم يحظ به أي كتاب من كتب الدنيا، بل لم توجد صورة هذا النقل إلا في أمة محمد ﷺ، وطريقة هذا النقل: أن يحفظ الطالب القرآن على شيخه حفظاً عن ظهر قلب، وشيخه قد حفظه على شيخه، ثم يمنح الشيخ تلميذه شهادة تسمى "إجازة" يشهد فيها الشيخ بأنه أقرأ تلميذه ما قرأه هو على مشايخه شيخاً بعد شيخ، كل منهم يسمي شيخه باسمه إلى أن يصل السند إلى رسول الله ﷺ، وهكذا يتسلسل السند الشفهي من الطالب إلى الرسول ﷺ.
وقد تضافرت الأدلة القوية والشواهد التاريخية - المتسلسلة بالسند أيضاً- على معرفة كل سورة وكل آية من القرآن الكريم أين نزلت ومتى نزلت على محمد ﷺ.
3- أن اللغات التي أنزلت بها الكتب الماضية قد اندثرت منذ زمن بعيد، فلا يوجد أحد يتكلم بها، وقليل من يفهمها في العصر الحاضر، أما اللغة التي نزل بها القرآن فلغة حية يتكلم بها اليوم عشرات الملايين، وهي تدرس وتعلم في كل قطر من أقطار الأرض، ومن لم يتعلمها يجد في كل مكان من يُفهّمه معاني القرآن الكريم.
4- أن الكتب القديمة كانت لزمن معين، وكانت موجهة إلى أمة بعينها دون سائر الناس؛ ولذلك تضمنت أحكاماً خاصة بتلك الأمة وذلك الزمن، وما كان كذلك فلا يناسب أن يكون للناس جميعاً.
أما القرآن العظيم فهو كتاب شامل لكل زمان، مناسب لكل مكان، متضمن من الأحكام والمعاملات والأخلاق ما يصلح لكل أمة، ويناسب كل عصر؛ إذ الخطاب فيه موجه إلى الإنسان بعامة.
ومن خلال ذلك يتبين أنه لا يمكن أن تكون حجة الله على البشر في كتب لا توجد نسخها الأصلية، ولا يوجد على ظهر الأرض من يتكلم اللغات التي كتبت بها تلك الكتب بعد تحريفها... إنما تكون حجة الله على خلقه في كتاب محفوظ سالم من الزيادة والنقص والتحريف، نسخه مبثوثة في كل مكان، مكتوب بلغة حية يقرأ بها الملايين من الناس، ويبلغون رسالات الله إلى الناس، وهذا الكتاب هو "القرآن العظيم" الذي أنزله الله على محمد ﷺ وهو المهيمن على هذه الكتب السابقة، والمصدق لها، والشاهد عليها، وهو الذي يجب على جميع البشرية اتباعه؛ ليكون لهم نوراً وشفاءً وهدى ورحمة، قال تعالى: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ١٥٥﴾ [الأنعام: 155]، وقال جل ثناؤه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158][104]. 6
[104] سورة الأعراف الآية 158 وانظر لما سبق العقيدة الصحيحة وما يضادها، ص 17، وعقيدة أهل السنة والجماعة ص 22، ومبادئ الإسلام، ص89.