حكمة خلق الإنسان
لله سبحانه من الحكم في ذلك ما تعجز العقول عن معرفته، والألسن عن صفته، وسنستعرض في هذه الوقفات شيئاً من هذه الحكم فمنها:
1- أنه سبحانه له الأسماء الحسنى فمن أسمائه: الغفور، الرحيم، العفو، الحليم،... ولابد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته داراً يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى، فيغفر لمن يشاء، ويرحم من يشاء، ويعفو عمن يشاء ويحلم على من يشاء إلى غير ذلك من ظهور أثر أسمائه وصفاته.
2- أنه سبحانه الملك الحق المبين؛ والملك هو الذي يأمر وينهي ويثيب ويعاقب، ويهين ويكرم، ويعز ويذل، فاقتضى ملكه سبحانه أن أنزل آدم وذريته داراً تجرى عليهم فيها أحكام الملك، ثم ينقلهم إلى دار يتم فيها جزاؤهم على أعمالهم.
3- أنه سبحانه أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلاً وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه، فخلى بينهم وبين أعدائه وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحبته؛ نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بدون ذلك أصلاً، فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة من أفضل الدرجات عند الله، ولم يكن ينال الإنسان هذا إلا على هذا الوجه الذي قضاه الله سبحانه من إهباط أدم وذريته إلى الأرض.
4- أن الله سبحانه خلق آدم وذريته من تركيب قابل للخير والشر ومستلزم لداعي الشهوة والفتنة، وداعي العقل والعلم، فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة، ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده، ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته، ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه؛ فاقتضت حكمته أن أنزل آدم وذريته إلى الأرض ليتم الامتحان وتظهر آثار استعداد الإنسان لهذه الدواعي واستجابته لها، وتكريمه أو إهانته تبعاً لذلك.
5- أن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وهي الغاية من خلقهم قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ٥٦﴾ [الذاريات: 56]، ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل في دار النعيم والبقاء؛ إنما يحصل في دار المحنة والبلاء، أما دار البقاء فدار لذة ونعيم، لا دار امتحان وتكليف.
6- أن الإيمان بالغيب هو الإيمان النافع، أما الإيمان بالمشاهدة فكل أحد يؤمن يوم القيامة، فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب الذي تعقبه اللذة والكرامة الحاصلة بسبب الإيمان بالغيب؛ فلذلك أنزلهم إلى دار يكون لإيمانهم فيها بالغيب مجال.
7- أن الله خلق آدم عليه السلام من قبضة من جميع الأرض، والأرض فيها الخبيث والطيب، والحزن والسهل، فعلم سبحانه أن في ذرية آدم من لا يصلح لمساكنته في داره؛ فأنزله إلى دار استخرج فيها الطيب والخبيث، ثم ميّزهم سبحانه بدارين: فجعل الطيبين أهل جواره ومساكنته، وجعل الخبيثين أهل دار الشقاء دار الخبثاء.
8- أن الله سبحانه أراد من ذلك أن يعرف عباده الذين أنعم عليهم تمام نعمته عليهم وقدرها؛ ليكونوا أعظم محبة وشكراً، وأعظم التذاذاً بما أعطاهم من النعيم، فأراهم سبحانه فعله بأعدائه وما أعد لهم من العذاب، وأشهدهم تخصيصهم بأعلى أنواع النعيم؛ ليزداد سرورهم، وتكمل غبطتهم، ويعظم فرحهم، وكان ذلك من تمام الإنعام عليهم ومحبتهم، ولم يكن بد في ذلك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم واختيارهم، وتوفيق من شاء منهم رحمة منه وفضلاً، وخذلان من شاء منهم حكمة منه وعدلاً. وهو العليم الحكيم.
9- أن الله أراد أن يعود إليها آدم وذريته وهم على أحسن أحوالهم، فأذاقهم قبل ذلك من نصب الدنيا وغمومها وهمومها وأوصابها ما يعظم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة؛ فإن الضد يظهر حسنه الضد[18].
وبعد أن أوضحت بداية الإنسان فيحسن أن نبيّن احتياجه إلى الدين الصحيح.
[18] انظر مفتاح دار السعادة، جـ1، ص6-11.