حقيقة الكفر
وبإزائه إنسان آخر، ولد مستسلماً وعاش مستسلماً طول حياته، من غير أن يشعر باستسلامه أو يفطن له، ولم يعرف ربه، ولم يؤمن بشرعه، ولم يتبع رسله، ولم يستخدم ما منحه الله من العلم والعقل ليعرف من خلقه، وشق سمعه وبصره. فأنكر وجوده، واستكبر عن عبادته، وأبى أن ينقاد لشرع الله فيما أوتي فيه حق التصرف والاختيار من أمور حياته أو أشرك به غيره، وأبى أن يؤمن بآياته الدالة على وحدانيته، وهذا هو الكافر. ذلك بأن معنى الكفر هو الستر والتغطية والمواراة، يقال: كفر درعه بثوبه إذا غطاها به ولبسه فوقها، فيقال لمثل هذا الرجل "كافر" لأنه ستر فطرته وغطاها بغطاء من الجهل والسفاهة. وقد علمت أنه ما ولد إلا على فطرة الإسلام، ولا تعمل أعضاء جسده إلا طبقاً لفطرة الإسلام. ولا تسير الدنيا حوله بأسرها إلا على سنن الاستسلام، ولكنه غطى بحجاب مستور من الجهل والسفاهة، وتوارت عن بصيرته فطرة الدنيا وفطرة نفسه، فتراه لا يستخدم قواه الفكرية والعلمية إلا فيما يخالف فطرته، ولا يرى إلا ما يناقضها، ولا يسعى إلا فيما يبطلها.
ولك أن تقدر الآن بنفسك ما ارتكس فيه الكافر من الضلال البعيد والغي المبين[73].
وهذا الإسلام الذي يطلب منك أن تمتثله ليس بالأمر العسير، بل هو يسير على من يسره الله عليه، فالإسلام هو ما سار عليه هذا الكون كله: ﴿وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا﴾ [آل عمران: 83]، وهو دين الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]، وهو إسلام الوجه لله كما قال جل ثناؤه: ﴿فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20]، وقد بين النبي ﷺ معنى الإسلام فقال: (أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك لله، وتؤتي الزكاة المفروضة)[74]، (وسأل رجل الرسول ﷺ: ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)[75]. وكما قال رسول الله ﷺ: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)[76]، وقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) [77].
وهذا الدين وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال الله تعالى عن نوح: ﴿۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ نُوحٍ إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيۡكُم مَّقَامِي وَتَذۡكِيرِي بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡتُ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ٧٢﴾ [يونس: 71-72]، وقال جل ثناؤه عن إبراهيم: ﴿إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ١٣١﴾ [البقرة: 131]، وقال عز شأنه عن موسى: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰقَوۡمِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ فَعَلَيۡهِ تَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّسۡلِمِينَ٨٤﴾ [يونس: 84]، وقال في خبر المسيح: ﴿وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ١١١﴾ [المائدة: 111][78].
وهذا الدين - الإسلام - يستمد تشريعاته وعقائده وأحكامه من الوحي الإلهي -القرآن، والسنة- وسأذكر لك نبذة مختصرة عنهما.
[73] مبادئ الإسلام ص 3،4. [74] رواه الإمام أحمد جـ5، ص3، وابن حبان، جـ1، ص377. [75] رواه الإمام أحمد في مسنده، جـ4، ص114، وقال الهيثمي في المجمع جـ1، ص59، رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، ورجاله ثقات. انظر رسالة فضل الإسلام للإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، ص 8. [76] رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث8. [77] رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، واللفظ له، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، حديث39. [78] التدمرية، ص 109-110، والآية 111 من سورة المائدة.