10 موقف شريعت من ظاهرة النبوة وردّه على الفلاسفة والباطنية
للشيخ «شريعت سنكلجي» بحث مهم في كتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن] حول النبوة العامة ثم الأدلة على نبوة خاتم الأنبياء محمد المصطفى ص وفي آخره بيان لحقيقة الوحي يرد فيه على تفسير الفلاسفة - الذي يؤمن به أيضًا الباطنية من الإسماعيلية، وقلَّة من المؤمنين بالفلسفة أيضًا من علماء الإمامية - لمعنى الوحي والنبوَّة. وقد رد عليهم الشيخ «شريعت» ردًّا علميًّا مدلَّلاً ينبئ عن عمق فكره وسعة إحاطته العلمية نورده فيما يلي مختصرًا. قال تحت عنوان «تحقيق في حقيقة الوحي»:
«يملك الأنبياء والرسل حسًّا وشعورًا غير شعور العقل ويتمتَّعون بقوة أعلى وأقوى من قوَّة العقل، وهذا الحس أو الشعور غير موجود لدى غير الأنبياء، وبيان هذا الأمر يحتاج إلى ذكر مقدّمة:
اعتبر الفلاسفة أصول الإدراكات ثلاثة: الإحساس والتخيُّل والتعقُّل.
فالإحساس هو الإدراك الذي يحصل للنفس بواسطة الحواس الظاهرة، وشرط الإدراك الحسّي أن يكون المُدْرَك (بفتح الراء) شيئًا ماديًّا وحاضرًا لدى المدرِك (بكسر الراء) كي يحصل الإدراك.
أما التخيُّل فهو إدراك يحصل للنفس بواسطة الخيال الذي يدرك الصور، ولا يُشترط فيه حضور المادة عند الإدراك.
وأما التعقُّل فهو إدراك يحصل للنفس بواسطة القوّة العاقلة التي تدرك المعاني المجردة والحقائق الكّليّة.
ويرى الفلاسفة أن حقيقة الوحي هو كمال القوّة العقليّة التي يدرك بها النبّي الحقائق والمعاني بأسرع وقت من خلال الاتّصال بالعقل الفعّال، وكمال قوة التخيُّل لدى النبّي تحول تلك الصورة المجرّدة إلى موجودٍ حسّي، وتعكسه بصورة ألفاظٍ مسموعةٍ، وتنعكس حقيقة جبريل - الذي هو العقل الفعّال- في نفس النبي بصورة شخص نوراني وذلك بسبب قوة خيال النبي. فقد اعتبروا الوحي إذن من شؤون القوة العقليّة للنبّي، واعتبروا رؤية جبريل وسماع الكلمات من تصرفات قوة الخيال ومخترعاته.
وهذا التحقيق غير مقبول ولا مرضيٍّ، إذْ يلزم عن كلام الفلاسفة أن لا يكون القرآنُ الكريم كلمات ربانيةً، وأن لا يكون لنزول جبريل حقيقةٌ، بل أن تكون نفس النبيِّص هي التي اخترعت الألفاظ المسموعة بقوّة الخيال وأن يكون شخص جبريل شبحًا من صنع القوَّة التخيُّليّة له!!.
گرچه قرآن از لب پيغمبر است
هر كه گويد حق نگفته كافر است
أي:
رغم أن القرآن خرج من شفتي النبي
لكن كلُّ من يقول إن الحقَّ لم يَقُلْه، كافرٌ
وما نريد بيانه هاهنا أن الوحي إلى الرسل يحصل من خلال نوع رابع من الإدراك وهو قوة فوق العقل، والوحي فوق التعقُّل، ويُطْلقُ على الحاسة أو القوة التي يكتشف الأنبياء والرسل بواسطتها الحقائق، والتي هي مهبط الوحي ونزول جبريل، لفظ «الفؤاد»، كما صرح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ ١١﴾ [النجم:11]، فالأنبياء والرسل رغم أنهم مصادقًا لقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ﴾ [الكهف:110]، فهم بشـرٌ مثلنا يأكلون ويشـربون ويمشون وينامون ويموتون، وتجري عليهم كل لوازم البشريّة، ولكنهم من ناحية الروح والنفس والقوى الباطنية والإدراك صنف خاص وممتاز من البشر. كما نشاهد أن أصناف البشر رغم اشتراكهم في حقيقة الحيوانية والناطقية يختلفون عن بعضهم اختلافًا كبيرًا جدًّا إلى درجة أنه يُخَيَّل للإنسان وكأنهم أنواع مختلفة، فتجد صنفًا من الناس يتَّصفون بدرجة من البلادة وضعف الذهن والبله حتى لكأنهم أدنى ذكاءً من الحيوانات، في حين تجد صنفًا آخر ذوي عقل قويٍّ وذكاء وقَّاد يجعلهم مختلفين عن الصنف الأول تمامًا، وذلك كالفلاسفة والمخترعين، وتجد صنفًا متوحشًا دنيئًا وكأنه أكثر توحشًا وسَبُعِيَّةً من السباع المفترسة، في حين تجد صنفًا على درجة من الطهارة والنجابة والسلامة وكأنه أرفع من الملائكة، ولا يمكنك أن تقول إن إدراكات الفلاسفة هي عين إدراكات البُله (جمع أبله) بل يمكن القول إن هناك تضاد واضح بين الأغبياء والحمقى من البشـر وبين الفلاسفة والمخترعين، وهذا الاختلاف الشديد بين أبناء البشر حَدَا ببعض الفلاسفة مثل «أبي البركات» إلى الميل إلى فكرة أن البشر هم في الحقيقة أنواع مختلفة وليسوا نوعًا واحدًا.
وخلاصة الكلام، إذا استقرأنا أصناف البشـر وجدنا أنهم شركاء في هيكل الإنسانية ولكنهم مختلفون في جوهر النفس والإدراكات والأخلاق.
فدائرة إدراك صنف الأغبياء وضعاف العقل هي المحسوسات التي تدركها الحواس الخمس الظاهرة، وقوة الخيال والواهمة، ولا تتجاوز مُدْرَكَاتهم هذه الدائرة.
أما الفلاسفة والمخترعون فلا تخرج مدركاتهم عن دائرة العقل، وإدراكاتهم عقلية. أما الأنبياء والرسل فدائرة إدراكهم فوق العقل، ورغم أن قواهم الظاهرة والباطنية في غاية القوة والشدة والكمال، إلا أن القوة التي يتعرّضون فيها على الأشياء قوة وشعور آخر، لا سبيل أبدًا، للعقل والخيال والوهم إليه، فمشاهداتهم تكون بالفؤاد.
و هناك فرق جوهريٌ بين الأنبياء والفلاسفة:
فآلة الإدراك لدى الفلاسفة هي العقل، وآلة المشاهدة لدى الأنبياء هي الفؤاد، وسلسلة الرسل مفطورون على الانسلاخ عن عالم البشرية ومجبولون على التخلي عن تمام القوى. وروح الرسل الطاهرة تنسلخ، عند نزول الوحي وجبريل عليهم، انسلاخًا تامًّا وتتخلّى تخليًا حقيقيًّا عن جميع القوى الظاهرة والباطنة؛ فهم يشاهدون عالم الغيب بقوة الفؤاد، وهذا الانسلاخ والتخلية، يحصلان لهما بلمح البصر ويطلق على حالة الانسلاخ هذه والانقطاع عن عالم البشرية والاتصال بالملأ الأعلى وناموس العِلم المقدس الذي هو جبريل اسم «الوحي».
فكما يمتاز جنس البشر عن جنس الحيوانات بالنطق وإدراك الكليّات، كذلك يمتاز جنس الأنبياء عن الفلاسفة بقوة الفؤاد وسرعة الانسلاخ ومشاهدة سكان الملأ الأعلى وسماع الخطاب الرباني والكلمات السبحانية.
فإذا عرفنا أن حالة الوحي عبارة عن مفارقة عالم البشرية إلى عالم الملكية وتلقِّي كلامِ ربِّ العالمين، علمنا لماذا كانت حالة الوحي من أشد الحالات وأصعبها، كما قال تعالى ﴿إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا ٥﴾ [المزمل:5]، فكان النبيص يعاني من التنزيل شدَّة، وكان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصَّد عرقًا. وكان ثقل الوحي شديدًا عليه إلى درجة أنه كان يشعر وكأنه يموت عند الوحي ونزول جبريل عليه، ثم يحيى من جديد عند ذهابهما عنه، ولو كانت هذه الحالة من الوحي من قوة التعقل والتخيل كما زعمه الفلاسفة لما كان هناك أي معنى للغياب عن الوعي، في حين أن الرسول الأكرمص كان يعاني بعد الوحي من صداع شديد وكان يخضب رأسه بالحناء لإزالة الصداع الذي ينتابه.
إذن يتبيَّن مما ذُكر أنه لا يمكن تصوُّر وقوع الخطأ من الأنبياء في الوحي وأنه لا دخل أبدًا للوهم والخيال في أمر الوحي على الإطلاق. إن هذا الشعور الرابع المقدَّس يرى الحقائق كما هي ويسمع كلمات الحق دون أي تصـرُّف للخيال والوهم. والشاهد على هذا التحقيق نص كتاب الله لاسيما الآيات المباركات من سورة النجم»[137].
[137] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين القرآن، ص 220 - 226.