المحكم والمتشابه في القرآن وبيان حقيقتهما
وهذا الفصل الأخير مهم للغاية لأن موضوع المحكم والمتشابه استغله الغلاة والباطنية الذي وسعوا معنى المتشابه ليجعلوه يشمل معظم آيات القرآن وبالنتيجة فتحوا بابًا واسعًا لتحريف معاني القرآن بأقوالهم المذهبية وتأويلاتهم الباطنية، وكلما اعترض عليهم معترض بأن تفسيركم لهذه الآية لا يوافق معناها اللغوي الظاهر، قالوا: إنها من المتشابهات التي لا يعلم حقيقة معناها إلا الراسخون في العلم وهم النبي والأئمة!!
لذا فصَّل «شريعت» الكلام بشكل علميٍّ ممتاز في هذا الفصل في معنى المحكم والمتشابه وخَلُص في نهايته إلى القول:
«المراد من المتشابه في القرآن هو أن الحقائق المعقولة في مبدأ العالم والدقائق المحسوسة من اللذات والآلام في المعاد، والمعاني والحقائق التي لا يستطيع الناس المتوغلون في عالم الحس والخيال أن يدركوها، يتم تنزيلها في قوالب الأمثلة والعبارات وإظهارها في لباس الكنايات والاستعارات والتشبيهات، كي يسهُل على الناس الجاهلين فهمها ويتم إرشادهم من خلالها إلى الحقيقة وإلى معرفة الله كي يتخلَّقوا بالأخلاق الفاضلة.
إذن لم تنزل المتشابهات على النبيِّص كي لا يفهمها أحد إلا الله وكي يعجز حتى الأنبياء والأولياء والعلماء عن إدراكها، بل نزول المتشابه هو لأجل هداية الجاهلين وعامة الناس.
ومتشابهات القرآن منحصرة في بيان صفات خالق الكون مثل الأذن والعين واليد والوجه والاستواء على العرش وأمثالها، وكذلك في بيان كيفية القيامة والمعاد من مجيء الله والملائكة وكيفية الجنة والحور والقصور والأشجار والأنهار والسندس والإستبرق والأكواب والأباريق وبيان كيفيات جهنم من النار والغسلين والصديد وطبقات الجحيم ودركاتها وأمثال ذلك....
أما الآيات التي تتكلَّم عن الشـريعة وأحكامها وعن الحقوق والسياسات والأخلاق والمعاملات الاجتماعية وتدبير المنزل والمدن، فليست من المتشابهات أبدًا، وكذلك الأمر في آيات إثبات المبدأ والمعاد والنبوَّة، بل كلها آيات محكمة وأم الكتاب وليس أي منها من المتشابهات»[124].
وقال بعد ذكره لأمثلة من القرآن عن المتشابهات: «أما نحن، فعلى طريقة السلف إن شاء الله، فكل ما يتعلق بالله وصفاته وما يتعلق بعالم الغيب نفوِّض حقيقته إلى الحق تعالى»[125].
وأخيرًا في رسالة «براهين القرآن» الملحقة بالكتاب أوضح «شريعت» أن القرآن الكريم ذاته أفضل دليل على عقائد الدين وأصوله، وأن براهين القرآن تمتاز وتعلو على ما تذكره كتب المتكلمين أو الفلاسفة في الاستدلال على صحة أصول الدين، وبين في عدة فصول من هذه الرسالة دلائل القرآن على التوحيد - توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية- وعلى النبوة العامة ونبوة نبي آخر الزمان سيدنا محمد ص، ثم دلائل القرآن الرائعة على البعث ويوم القيامة وبقاء النفس بعد الموت.
وفي الختام من المفيد أن نذكر أن أغلب المراجع التي رجع الشيخ «شريعت» إليها في كتابه هي من مصادر أهل السنة سواء مصادر الحديث أم غيرها، واقتبس منها، مما يدل على اتجاهه الإسلامي المنفتح البعيد تمامًا عن الانغلاق الطائفي، فمن المراجع التي رجع إليها واقتبس منها على وجه القبول والتأييد:
تفسير الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ)، منهاج السنة النبوية، لابن تيمية الحراني (728هـ)، زاد المعاد في هدى خير العباد، لابن قيِّم الجوزية (751هـ)، تفسير المنار، للسيد محمد رشيد رضا (1354هـ)، الملل والنحل للشهرستاني (548هـ)، الفِصل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم الظاهري (456هـ)، تلبيس إبليس، لابن الجوزي البغدادي الحنبلي(597هـ)، الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمي (584هـ)، الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآمدي الشافعي (631هـ)، الموافقات في أصول الأحكام، للشاطبي المالكي (790هـ)، الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي الشافعي، (911هـ)، إحياء علوم الدين، وفضائح الباطنية، وجواهر القرآن، كلها لأبي حامد الغزالي الشافعي (505هـ).
[124] المصدر نفسه، ص 80 - 81. [125] المصدر نفسه، ص 94.