3- تفنيد «شريعت» لعقيدة «الرجعة»
بادئ ذي بدء ينبغي أن نعرف ما هي عقيدة الرجعة التي يؤمن بها الشيعة الإمامية. يقول الشيخ محمد رضا المظفر (ت 1383 هـ .ق/ 1964م) في كتابه «عقائد الإمامية» تحت عنوان: «عقيدتنا في الرجعة» ما نصه:
«إنّ الذي تذهب إليه الإمامية - أخذًا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام - أنّ الله تعالى يعيد قومًا من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقًا ويذلّ فريقًا آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الإيمان، أو مَن بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتجعين - الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله - أن يخرجوا ثالثًا لعلّهم يصلحون: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَيۡنِ وَأَحۡيَيۡتَنَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجٖ مِّن سَبِيلٖ؟﴾ [سوره غافر: 11]. نعم، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتضافرت بها الأخبار عن بيت العصمة، والإمامية بأجمعها عليه، إلاّ قليلون منهم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى»[86].
إذا عرفنا ذلك، نقول: كان شريعت سنكلجي يعتبر «الرجعة» من عقائد غلاة الشيعة[87]، وقد فنَّد هذه العقيدة في خطبه ودروسه وأتى على بنيانها من القواعد، كما ذكر ذلك تلميذه عبد الوهاب فريد تنكابني في كتابه «اسلام و رجعت» [الإسلام والرجعة] الذي ألفه في ردّ تلك العقيدة الخرافية مستفيدًا من بيانات شيخه «شريعت» ودروسه حول هذا الموضوع. يقول الشيخ تنكابني في مقدمة كتابه «اسلام و رجعت»:
«ورغم أن المصلح المعظَّم والعلامة المحترم الشيخ «شريعت سنكلجي» نهض منذ سنوات طويلة بإيمان كامل وعزم راسخ إلى شرح حقائق الإسلام وتوضيحها، وإزالة الخرافات والأوهام، وأبْطَلَ منذ مدَّة مديدة، في مدرسته «دار التبليغ»، عقيدةَ «الرَّجْعَة» ببيانات رائعة وجميلة وأتى عليها من جذورها، إلا أنَّني لمّا لاحظتُ أن هذا المطلب لم يتَّضح بعد، وأُسيء فهمه بشكل كامل بل أثّر على جماعات تأثيرًا سلبيًّا، خلافًا لما كان متوقَّعًا، إذْ جعل تلك العقيدة ترسخ فيهم أكثر من قبل! ومن الجهة الأخرى فإن بعض الأشخاص المهووسين الذين يصطادون في الماء العكر، والمنتسبين إلى أطراف نعلمها جميعًا قاموا بنشر هذه العقيدة (أي عقيدة الرجعة) التي كانت منذ زمن بعيد مستورةً ضمن مجموعة من الكتب القديمة التي يعلوها الغبار، وطرحوها بين جماهير العامة على أساس أنها من المباني المتقنة للإسلام ومن مقومات فرقة «الإمامية»!، وباختصار لمّا رأيت أن الإسلام قد أُلبِس هذا اللباس المخجل الذي جعل إخوتنا المصريين الأعزّاء وأبناء البلدان الإسلامية الأخرى يهاجموننا نحن «الإمامية» بسبب هذه العقيدة وبسبب مقولات «الغُلاة» الأخرى، أردتُ أن أوضح أن الإمامية براء ومنزهون من هذه المقولة ولذلك اهتممتُ بهذه العقيدة أكثر من غيرها من مقالات «الغُلاة» وصرفتُ مدة في دراستها ودراسة أطرافها بشكل عميق وخرجتُ بهذا الكتاب طبقًا لما سمح به فكري الضعيف، ووضعته أمام إخوتي في الإيمان ليطالعوه»[88].
هذا ويذهب الكاتب نور الدين چهاردهي، في كتابه «وهابيت وريشههاى آن» [الوهابية وجذورها] إلى أن كتاب «اسلام ورجعت» هو في الواقع من تأليف الشيخ «شريعت سنكلجي» نفسه، ويستدل على ذلك بعدة أمور، منها أنه سأل زملاء دراسة الشيخ فريد تنكابني عندما كان طالبًا للعلوم الدينية في الحوزة العلمية في قم زمن مرجعية آيت الله الحائري، عن رأيهم في كونه هو مؤلف ذلك الكتاب، فقالوا: إن تنكابني لم يكن على ذلك الحد من العلم الذي يجعله قادرًا على تأليف مثل ذلك الكتاب. والدليل الآخر - في رأي نور الدين چهاردهي - أن أساليب الاستدلال وإقامة البراهين وطريقة الكلام المتبعة في كتاب «اسلام ورجعت» تدل على أنه من تأليف شريعت سنكلجي نفسه. ودليله الثالث أنه رأى في أيام شبابه نسخةً مطبوعةً من كتاب «اسلام ورجعت» وعلى غلافها الخلفي كتب شريعت إهداءه الكتابَ لـ«علي مدرّس» أحد علماء طهران المعروفين في حينه، وقال نور الدين چهاردهي: لا يمكن أن يكون الكتاب من مؤلفات أحد تلاميذ شريعت ثم يقوم بإهدائه إلى أحد العلماء، ولو كان من تأليف فريد تنكابني لذكر شريعت ذلك في إهدائه. وأخيرًا استدل نور الدين چهاردهي بأن كتاب «اسلام ورجعت» لو كان قد نُشِرَ دون ذكر لاسم مؤلفه، لَـحَكَمَ كلُّ من كانت له معرفةٌ بأسلوب كلام شريعت ومؤلفاته بأن الكتاب من تأليفه، لاسيما أن أهم آراء شريعت موجودة في هذا الكتاب.
لكن نور الدين چهاردهي استدرك في نهاية كلامه وقال: يُحْتَمَل احتمالاً ضعيفًا أن يكون فريد تنكابني قد دوَّن تقريرات أستاذه شريعت وأنه عرض الكتاب عليه فقام شريعت بتحريره وكتابة بعض الإضافات عليه، ثم نشره الشيخ فريد تنكابني - الذي كان يسكن في منطقة رامسر شمال طهران - باسمه[89].
وأقول: إن ما ذكره تنكابني في مقدمة كتاب «اسلام و رجعت»، التي أوردتُ جزءًا منها أعلاه، ينفي أن يكون شريعت هو الذي ألف الكتاب بقلمه، لأن تنكابني صرح بوضوح أنه كتب هذا الكتاب ليلقي مزيدًا من الضوء على الدلائل على نفي الرجعة، التي ذكرها أستاذه «شريعت» وبيَّنها في دروسه وخطبه المنبرية لكنها لم تكن كافية لاتِّضاح حقيقة المسألة في أذهان الناس بل أساء بعضهم فهم كلامه، فأراد تنكابني أن يعطي المسألة حقها من البحث والاستدلال ويزيدها توضيحًا فألف هذا الكتاب، وليس هناك أي دليل يدعونا إلى عدم تصديق كلام تنكابني هذا أو نسبة الكذب إليه!
وعلى كل حال، يقول الكاتب نور الدين چهاردهي حول الأثر الذي تركه كتاب «اسلام و رجعت» والضجة التي أثارها في أوساط علماء الشيعة التقليديين:
«أثار كتاب بعنوان «الرجعة» نُشر مِنْ قِبَل شريعت سنكلجي، ضجَّةً ولغطًا كبيرًا. حتى ذلك الزمن كان العلماء قد بقوا على الحياد ولزموا الصمت تجاه نظريات شريعت وآرائه وأقواله وكتاباته وطريقته في الدعوة والتبليغ وتنظيم الدروس؛ لكن شريعت شرح في دروسه وبيَّن في خطبه المنبرية المختلفة كل المباحث التي جاءت فيما بعد في كتاب «الرجعة»...... فأثار سخط العلماء عليه، وبلغ السخط ذروته [بصدور هذا الكتاب] مما حدى بتوجيه سؤال رسمي إلى مرجع التقليد الأعلى للشيعة الإمامية في ذلك العصر آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري حول الموضوع، فأجاب بأنه يؤمن بالرجعة، ولكنه لم يكفِّر شريعت سنكلجي الذي أنكرها، لأنه لو أصدر حكمه بتكفير منكر الرجعة لأدى إلى تشدُّد أتباع «شريعت» ولجاجهم في أفكارهم، ولأدى ذلك إلى نشأة مذهب جديد يُضاف إلى المذاهب الإسلامية، وذلك لأن أكثر الضباط والموظفين والمسؤولين الكبار في الدولة والشعراء والكُتَّاب ومدراء تحرير الصحف والشباب الجامعي المثقف كانت قلوبهم قد تعلّقت بشريعت وشُغِفوا بأفكاره، كما ذكرنا ذلك سابقًا.....»[90].
هذا وقد أورد المؤرخ المعاصر رسول جعفريان نص ذلك الاستفتاء الذي طرحه - على حد قوله - أحد طلاب العلوم الدينية المثقفين المتنورين في ذلك الحين وربما كان الهدف منه الدفاع عن شريعت سنكلجي، ونصّ إجابة آية الله الحائري عنه (نقلًا عن مجلة همايون، العدد الخامس الصادر في شهر بهمن سنة 1313 هـ.ش/شوال 1353هـ.ق، ص 2)، كما يلي:
[السؤال: إلى المحضر المبارك لحضرة آية الله الحائري - مُدَّ ظِلُّه العالي-: عذرًا لتصديعي رأسكم، أحتاج إلى سؤالكم حول موضوع «الرجعة الجسمانية» المذكورة في الطريقة الإمامية الشريفة والمذهب الجعفري المُقدَّس. ما هي عقيدتكم في ذلك وما هو الذي يستنبط من الكتاب والسنة في هذا الصدد؟
الجواب: «بسم الله الرحمن الرحيم، يعتقد هذا الأحقر بالرجعة على نحو الإجمال نظرًا إلى كثرة الأخبار الواردة بشأنها، ولكن هذا الأمر ليس لا من أصول الدين ولا من أصول المذهب، ولو فرضنا أن شخصًا لم يعتقد بالرجعة فلا يُعَدُّ بسبب ذلك خارجًا عن الدين أو عن المذهب، كما أن الرجعة ليست من المسائل العلمية التي يجب على الأفراد المكلفين أن يكتسبوا العلم بها اجتهادًا أو تقليدًا. وفي مثل هذا الزمن لا بد من حفظ دين الناس بنحو آخر، والبحث والنقاش في مثل هذه الموضوعات لا يفيد سوى في تفرقة كلمة المسلمين وإيجاد عداوة مضرة بينهم».
الأحقر عبد الكريم الحائري. موضع خاتمه المبارك.][91].
وأضاف المؤرخ رسول جعفريان أن طرح الأسئلة والشبهات حول الرجعة، كان سببًا في تأليف كتب عديدة حول هذا الموضوع في عشرينيات القرن الحالي[92] مِنْ قِبَلِ بعض علماء الشيعة. منها على سبيل المثال: كتاب «بيدارى امت در اثبات رجعت» [إيقاظ الأمة في إثبات الرجعة]، تأليف آية الله السيد محمد مهدي الأصفهاني، ترجمة أبو القاسم سحاب، طهران، 1331 هـ.ش. وكتاب «بيان الفرقان (ج 5)، الغيبة والرجعة»، تأليف الحاج الشيخ مجتبى القزويني، مشهد، 1339 هـ.ش. وكتاب «اثبات رجعت» [أي إثبات الرجعة]، للسيد أبي الحسن الحسيني القزويني، 1369 هـ.ق.[93].
[86] الشيخ محمّد رضا المظفر، عقائد الإمامية، الطبعة الثانية، ص 94 - 95. [87] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1020. [88] عبد الوهاب فريد تنكابني، اسلام ورجعت [الإسلام والرجعة]، ص 7 - 8. ويذكر الباحث سيد مقداد نبوي رضوي - (نقلاً عن كتاب «تذكره عرفاء» للسيد عبد الحجت البلاغي، ص 259) - أن تاريخ كتابة هذه المقدمة هو 1355 هـ.ق؛ أما زمان طبع الكتاب فهو 1358 هـ.ق (1318 هـ.ش). [89] انظر: نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 175 - 176. [90] نور الدين چهاردهي، وهابيت وريشههاى آن [الوهابية وجذورها]، ص 174 - 175. [91] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1017. [92] أي عشرينيات القرن الرابع عشر الهجري الشمسي (ويوافق أربعينيات القرن العشرين الميلادي المنصرم). [93] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، ص 1018. وقال: انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، ج 5، ص 290؛ ج 8، ص 50 و250؛ ج 11، ص 9 و 75 و 112 و 310؛ ج 12، ص 210؛ ج 18، ص 32 و 305؛ ج 24، ص 68. وقال: ومعظم هذه المؤلفات طبعت في الفترة الزمنية بين 1315 إلى 1323 هـ.ش. [يطابق: 1355 - 1363 هـ.ق.].