توطئة
إن شريعت سنكلجي كان يرى أن التوحيد أساس الدين، وكان يرد على كل ما خالف التوحيد واختلط بشوائب الشرك والخرافات والأساطير وناقض العقل السليم. ولذلك كان يبدّع كثيرًا من عقائد الشيعة ويعتبرها باطلة ومن الخرافات والأساطير، وكان يطعن في كثير من الأخبار والأحاديث التي انبت عليها عقائد الشيعة ويعتبرها مكذوبة موضوعة. ولذا هاجمه معارضوه بشدة وبعبارات قاسية.
يقول في كتابه «توحید العبادة»: «هذا العبد الضعيف [شريعت سنگلجي] قضيتُ سنوات طويلة في دراسة العلوم الإسلامية والتبحّر فيها بعمق، وبذلت قصارى جهدي بقدر الطاقة البشرية في تعلّم التفسير والحديث والكلام والفلسفة والفقه والأصول والتاريخ واجتهدت فيها، وقمت بمطالعات وافية في الملل والنحل والأديان، واهتديت إلى القرآن طبقًا لمفاد قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَا...﴾ [العنكبوت: 69]. وحقّقت في دين الإسلام الحنيف وبحثت فيه وميّزت بقدر طاقتي بين الحقّ والباطل وألقيت عن نفسي أثقال الشرك والأوهام وكسّرت سلاسل الخرافات وأغلال الأباطيل، ونهلت من معين القرآن الزلال واهتديت بنوره؛ ولما رأيت أن الأمور التي فهمتها قد شهد على صحتها وحقيقتها شاهدا عدل: العقل والشرع، وأنني إذا لم أظهر الحقيقة للمتعطّشين لها لانطبق عليّ هذا الحديث الشريف: «إِذا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي الدِّينِ فَعَلَى الْعَالِمِ أَن يُظْهِرَ عِلْمَهُ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ»[64]، فاستحقت ذلك اللعن الذي أخبر عنه رسولاللهص. لذلك شمّرت عن ساعد الجد وبدأت بما هو الأهم، وهو توحيد الإسلام الذي هو ركن الدين الركين ومحور سعادة الدنيا والآخرة؛ ولكن مع الأسف أصابه التحريف والتبديل وتحوَّل لدى الناس إلى معنىً آخر، إذ انتشر باسمه ألف شركٍ وشرك»[65].
إن شريعت سنكلجي كان يؤكد دائمًا على أنه في بيان عقائده وآرائه لن يستند إلا على القرآن الكريم كمصدر أساسي، وكان يعتقد أنه لا توجد في القرآن آية يعجز البشر عن فهمها، بل إن كل القرآن الكريم قابل للتدبر والفهم.
وإن أهم النقطة التي تترسخ عليها أسس التجديد الديني ويقوم عليها منهج التيار الاصلاحي الشيعي، هي الرجوع المباشر إلى القرآن الكريم وتدبره وفهمه. فالعودة إلى القرآن الكريم هي الميزة الأساسية لهذا التيار الاصلاحي التجديدي بين الشيعة.
يقول الدكتور «ناصر الدين صاحب الزماني»[66] في كتابه «ديباچهاى بر رهبري» [مقدمة على الزعامة]: «إن حركة «شريعت سنكلجي» نهضة مجهولة، وإن شريعت سعى من خلال نقد بعض الأخبار والأحاديث، ومن دون أن يبطل الإسلام، إلى طرح الإسلام للناس بصورة نهضة تقدمية اجتماعية، جاعلاً منه إيديولوجية أو رؤيةً للعالَم مقبولةً لدى الجيل المعاصر». وقال أيضًا: «إن الطريق الذي سلكه شريعت في [تصحيح] الفكر الديني وما طرحه من اجتهادات إسلامية كان طريقًا ثوريًّا». ثم أكّد بعد بضع صفحات أن شريعت كان يهدف إلى «اكتساب الأجيال القادمة، في إيران الإسلامية، للحرية والاستقلال الفكري»[67].
كما يذكر صاحب الزماني أن حركة أحمد كسروي كانت أكثر أنواع التحرك المشابه لحركة شريعت تطرُّفًا وغلوًّا، ويقول:
«بالتزامن مع شريعت، وبشكل آخر ومن النمط المتطرِّف جدًّا، انعكس مثل هذا المسعى في وجود «أحمد كسروي» وشريعة «الدين الطاهر» الذي طرحه، والذي انعكس في كتبه مثل صوفيگري (الصوفية والتصوف) و..... وغيره من كتبه ومؤلفاته»[68].
ويقول بعد صفحات:
«كان لشريعت وكسروي سعيًا تصحيحيًّا متطابقًا ومتناغمًا. كانا يحاولان أن ينقيا مزرعتهما الاجتماعية وينظفاها من الأعشاب الضارة التي يعتقدان أنها نمت حولها عبر القرون وأن يعودا إلى النقاء الديني الذي كان في صدر الإسلام... كل ما في الأمر أن شريعت كان أكثر تحفُّظًا في هذا المسعى في حين أن كسروي كان أكثر حِدَّةً وهجوميّةً، وكانت الإصلاحات التي يقترحها شريعت تنصب في الغالب على إصلاح مؤسسة علماء الدين وإعادة بناء الفكر الديني وتصحيحه، في حين صَرَف كسروي نظره عن علماء الدين تمامًا، وركَّز اهتمامه على ساحة الأدب والسياسة»[69].
ويعقِّب المؤرخ المعاصر رسول جعفريان على تلك المقارنة السابقة بين شريعت وكسروي قائلاً:
«من المؤكَّد به أنه من الظلم مقارنة هذين الشخصين [شريعت وكسروي) أحدهما بالآخر. كل ما في الأمر أن كل واحد من ذينك الشخصين كان يتحرك بهدف الإصلاح حسب ظنه؛ وهي حركة كانت تنتهي بالاصطدام بعلماء الدين التقليديين في نهاية المطاف»[70].
وينقل الباحث الأستاذ «سيد مقداد نبوي رضوي[71]» (في مقاله حول تحليل مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية) عن أحد معارضي شريعت الأشداء وهو «سيد عبد الحجت بلاغي» قوله: «إن أهم المسائل التي كان شريعت سنكلجي ينكرها هي: «غيبة إمام الزمان»، و«الرجعة»، و«المعاد الجسماني»، و«المعراج»، و«الشفاعة»، و«معجزات الأنبياء»، وأن شريعت لم يكن يرى لرسول الله ص معجزةً سوى القرآن»[72].
وأقول: بعض ما في كلامه محض افتراء وإيهام بأمر غير صحيح في حق شريعت، وهذا لا يُسْتَغرب من شخص ذُكِرَ أنه كان يُكِنُّ لشريعت عداءً شديدًا. فشريعت لم يكن ينكر المعراج أو الشفاعة أو معجزات الأنبياء من أساسها أبدًا، نعم ربما كان يعطي بعضها تفسيرًا معيَّنًا قد يختلف عمَّا هو شائعٌ في أذهان الناس أو العوام، أي يصحِّح فهم العوام الخاطئ لها.
وفيما يلي نص حرفي من كلام «شريعت» حول معجزات الأنبياء من كتابه «مفتاح فهم القرآن» يبين بكل صراحة وضوح إيمان «شريعت» بمعجزات الأنبياء وخوارقهم ويكشف مدى افتراء عبد الحجت بلاغي عليه. يقول شريعت في كتابه المذكور في فقرة تحت عنوان: «دليل القرآن على إثبات النبوة»:
«.... إن هذا النوع من الخوارق في وضع الشـرائع وبيان المعارف الحقيقية وحل المشكلات الكونية التي ليست في متناول العقلاء والفلاسفة ولا سبيل لهم إليها، مما يعلنه الأنبياء والرسل للناس استنادًا إلى ما يوحى إليهم من الله، والذي يمكن أن نطلق عليه اسم «المعجزات العقلية»، أوضح في دلالته على النبوة من الخوارق والمعجزات الحسّيّة من قبيل تحويل العصا إلى ثعبان وفلق البحر وأمثالها، التي لا تدل وحدها دلالة ضرورية على النبوة، بل تدل على النبوة عندما تنضم إلى الخوارق العلمية للأنبياء، فمعجزة الرسل أولاً وبالذات هي العلم والعمل، والمعجزات الحسية مؤيدة وداعمة للمعجزات العقلية، ودلالة المعجزات العلمية على النبوة دلالة قطعية أما المعجزات الحسية فهي بمثابة شاهد داعم للمعجزات العقلية»[73].
فبالله عليكم، هل هذا الكلام المتين يفيد أنه ينكر معجزات الأنبياء؟!
بعد أن ذكرنا ما قاله الآخرون عن منهج شريعت الإصلاحي، فلنَرَ ما قاله شريعت نفسه عن معالم منهجه في الإصلاح وجوهر طريق التصحيح الديني الذي هداه الله إليه. قال في مقدمته لكتابه «كليد فهم قرآن» [مفتاح فهم القرآن]:
«....... فتوجهت إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب، فوفَّقني الله بحمده لكشف أمر هام وفتح أمامي طريقًا لفهم الدين وتدبر القرآن المبين وهو وجوب أخذ الدين من السلف لا من الخلف، وبعبارة أوضح لا بد أن نرى كيف كان فهم مسلمي الصدر الأول للقرآن وأي دين كان لدى المسلمين قبل أن تنشأ الفلسفة والتصوف والأشعرية والاعتزال؟
بعد أن تفطنت لهذا المعنى وهداني الله إلى طريق الصواب قَطَعْتُ -بحول الله وقوَّته- بالـمرَّة وإلى الأبد قيود التقاليد ومزَّقْتُ حُجُبُ التعصُّب والأوهام، وألقيتُ عن كاهلي حِمْلَ الخرافات الثقيل، وأخذتُ -بعناية الله -الدينَ عن السلف الصالح واهتديتُ بخير الحديث: كتابِ اللهِ تعالى، واهتديت بهداية القرآن، وقلتُ ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِيَ لَوۡلَآ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ...﴾ [الأعراف:43]»[74].
فالعودة إلى القرآن الكريم: خير الحديث، والاهتداء بهدايته وفهمه كما فهمه السلف الصالح هو الهداية لدى «شريعت» وهو المنهج والطريق، كما هو السبب في نبذه، بالمرة وإلى الأبد، قيود التقاليد: أي الآراء البشرية المُخْتَرَعَة والبدع المذهبية الدخيلة البعيدة عن هداية القرآن وطريق السلف الصالح.
وفيما يأتي نذكر بعض أهم نقاط هذا الإصلاح والتجديد الديني لدى الشيخ «شريعت»[75]:
[64] ورد في الكافي للكليني (1/54)، عن النبي ص: «إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ». وانظر الوسائل (16/ 269، 271). [65] مقدمة المؤلف لتوحيد العبادة. [66] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني: باحث وكاتب إيراني معاصر حداثي النزعة، متخصص في الفلسفة وعلم النفس واللسانيات، وله عديد من الكتب وعشرات الأبحاث والمقالات المطبوعة في مجلات إيرانية مختلفة. [67] الدكتور محمد حسن ناصر الدين صاحب الزماني، ديباچهاى بر رهبري [مقدمة على الزعامة]، صص 133 - 134. [68] المصدر نفسه، صص 135 - 137. [69] المصدر نفسه، ص140. [70] رسول جعفريان، جريانها وسازمانهاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، في ص 1018، حاشية رقم 2. [71] باحث في مجال تاريخ الأفكار الدينية في إيران المعاصرة. كما عرَّفت به مجلة «امامت پژوهي» [أبحاث الإمامة] الفصلية التي نشرت مقاله حول تحليل مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية. [72] سيد مقداد نبوي رضوي، «نگاهى تحليلى به تكاپوهاى فكرى شريعت سنگلجى» [نظرة تحليلية إلى مجاهدات شريعت سنكلجي الفكرية]، مجلة «امامت پژوهى» [مباحث الإمامة] الفصلية، العدد 4 من السنة الأولى، ص 253، نقلاً منه عن السيد عبد الحجت بلاغي، تذكره عرفاء (تذكرة العارفين)، ص 257 حتى 260. [73] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن [مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، طهران، مؤسسة انتشارات دانش، الطبعة الخامسة بالأفست، بدون تاريخ، ص 211. [74] المصدر نفسه، ص 4 - 5. [75] وسنتحدث لاحقًا عن نقاط أخرى أيضًا من إصلاحه الديني فيما يتعلق بتوحيد العبادة ومنهج فهم القرآن، بشكل أكثر تفصيلاً، وضمن فصلين خاصين بذلك.