المصلح الديني الكبير آية الله شريعت سنكلجي - مؤسس المدرسة الإصلاحية التوحيدية في إيران

فهرس الكتاب

تمهيد

عاصر سنكلجي في العقود الأخيرة من حياته فترة حكم الملك رضاشاه كلها وقرابة ثلاث سنوات من بداية حكم ابنه الشاه محمد رضا بهلوي[126] وقد ذكرنا سابقًا أن فترة حكم رضاشاه اتَّسَمت بنشر العصرنة والتغريب بشكل قسري، وبمعاداة الدين ومظاهره وشعائره.

يقول المؤرخ المعاصر رسول جعفريان متحدِّثًا عن تلك الفترة الزمنية:

«لاشك أن عهد المَلِك رضا خان كان عهد محاربة للدين والقضاء على السنن والتقاليد وعلى المؤسسات الدينية المدنية كالحوزات الدينية ومؤسسة المرجعية الشيعية. لقد كان عهدًا توقفت فيه جميع الحوزات العلمية جراء ضغوطات الشاه رضا خان واستبداده... كانت دولة رضا خان تواصل هذه الضغوطات بشكل رئيسي من خلال الدعاية الإعلامية وعبر وسائل تنفيذية أيضًا، وكانت تستند في ذلك إلى نوع من النظرة العصرية التنويرية المستبدة. كان أنصار الثورة الدستورية من دعاة التحديث والعصرنة، وكانوا مؤيدون جميعًا لتلك الإجراءات؛ لذا نشاهد في كتاباتهم حول الطقوس الدينية وعلماء الدين - سواءً الشعرية منها أم النثرية -، قمة العداوة التي كانت تمارسها تلك الشريحة النخبوية في المجتمع ضد علماء الدين في الفترة الزمنية التي تلت الثورة الدستورية (1906م) وحتى شهر شهريور 1320 هـ.ش (أغسطس/آب 1941م).....

لقد صاغ المثقَّفون التنويريون العصريون الذين تربوا في السنوات التي تلت الثورة الدستورية، خلال فترة حكم رضا خان كلّها، الظروفَ السياسيةَ والاجتماعيةَ والثقافيةَ للمجتمع وصبغوها بصبغة معاداة رجال الدين. في هذا المجال توحَّدت الجماعات المُتَغَرِّبة كلها، سواءً اليمينية أم اليسارية، وسواءً الاشتراكية أم الماركسية المؤيدة للاتحاد السوفيتي، واجتمعت واتفقت كلها على محاربة رجال الدين بل الدين نفسه وكان بينها انسجام وتنسيق في هذا المجال. وبعبارة أخرى، كان اتجاه التحولات الثقافية والسياسية بعد الثورة الدستورية يسير خطوةً خطوةً لغير صالح الدين ويتّجه نحو تقليص نفوذه في المجتمع. عندما كان المثقفون العصريون ذوو التبعية الفكرية للغرب والماركسيون - رغم كل الاختلاف النظري فيما بينهم- يتحدثون في تلك الفترة الزمنية عن عوامل الانحطاط والتخلف وأسبابهما، كانوا يعتبرون أن الدين هو السبب الأصلي لهذا التخلف...»[127].

ثم تحدث رسول جعفريان بعد صفحتين عن انتشار حزب توده الشيوعي في إيران في بداية عهد محمد رضا بهلوي وتمكنه من جذب كثير من الشباب إلى الفكر الإلحادي المادي، ودفعهم إلى رفض الدين وشعائره التي ورثوها عن آبائهم بما في ذلك الصلاة والصوم[128].

من الطبيعي إذن أن تنتشر في هذه الظروف الأفكار الإلحادية واللادينية، وتُثار الشبهات في أذهان الشباب المثقف حول أسس الدين وأصوله العقائدية كوجود الله تعالى والمغيبات مثل الوحي والنبوة، والمعاد (البعث والقيامة).

هنا كان الشباب المتدين الحائر يجدون في الشيخ شريعت سنكلجي ملاذهم، ويطرحون عليه كل ما يُثار في أذهانهم من شبهات بكل حرية فيصغي لهم ويستمع إليهم بكل أناة، ويجيبهم إجابات علمية مقنعة، كما كان يفند في دروسه ومؤلفاته شبهات الملحدين حول أصول الدين. وفيما يأتي بيان لجانب من جهوده في هذا المجال، كما تعكسه رسالته براهين القرآن (الملحقة بكتابه مفتاح فهم القرآن) التي فند فيها شبهات الماديين - لا سيما مذهب المثالية الفلسفية[129] والمذهب التجريبي الحسي[130] وهما من أهم أسس الإلحاد وشبهات الملاحدة في كل عصر حتى اليوم - فلنستمع إلى سنكلجي كيف يفند هذه المذاهب والشبهات تفنيدًا علميًّا ممتازًا، يقول تحت عنوان: «القرآن يحتوي على البراهين على أصول الإيمان»:

«.... منذ أن وضع الإنسان قدميه في عالم الطبيعة الترابي هذا، وهو يبحث عن حقائق الأشياء وعللها، ويلاحظ الكون ويتأمّله، أوّل ما لَفَتَ نظره هو البحث عن إجابة على هذه الأسئلة: ما هي حقيقة هذا الكون وعالم الوجود؟ وما هي نسبتي لهذا الكون؟ وماذا عليّ فعله في هذا العالم؟ هذه الأسئلة دفعت الإنسان إلى البحث والتحقيق، ونشأت لدى البشـر من خلال ذلك آراء وعقائد مختلفة.

فقال بعضهم إنه لا توجد أي حقيقة، ولا سبيل للإنسان للتوصل إلى أي حقيقة، وسُمِّيَتْ هذه الجماعة بالسفسطائية.

وقال آخرون: العالم منحصر بالمحسوس ولا يوجد أي حقيقة أو عالم آخر خارج عالم المادة والحس، وسُمِّي هؤلاء بالحسيين.

وقال فريق ثالث توجد عوالم كثيرة لا حصـر لها غير هذا العالم المحسوس ولا يمكن للحواس أن تلاحظ تلك العوالم، بل البحث في تلك العوالم الغيبية ينحصر بالبرهان العقلي، وسمي هذا الفريق بالفلاسفة الإلهيين.

وقال فريق رابع إن طريق الوصول إلى الحقائق منحصـر بالمكاشفة فقط والاستدلال العقلي استدلالٌ ضعيفٌ وذو أساس مهتز، وهذا الفريق هم جماعة الصوفيّة.

أما القرآن الكريم فقد اعتبر أن الطريق للوصول إلى الحقائق هو الدليل والبرهان بالشـروط التي سنبينها بعد أن نذكر طرق المعرفة المختلفة التي مرّ ذكرها.

طريقة السفسطائية و الردّ عليها:

«..... مذهب «الشك أو اللاأدرية» كان يظهر في كل عصـر من العصور فمثلاً، كان «جورجياس» أحد زعماء السفسطائية يقول: إننا نشك في وجود الأشياء [أي ربما لا يوجد شيء!]، وإن كانت الأشياء موجودة فلا سبيل إلى معرفتها. وإن وجد شيء وأمكن معرفته فلا يمكننا تعريفه للآخرين!. وفي العصور الحديثة كان زعيم الشكّاكين «ديفيد هيوم»[131]، فقد أبان أن وسائل المعرفة التي يعتمد عليها العقل البشـري كالعلة والمعلول، والسبب والمسبب، والجوهر والعرض ونحو ذلك، ليست إلا وهمًا وخداعًا، ومن ثم لا تمكن المعرفة.... وخلاصة ما تقدم أن السفسطائية انقسموا إلى ثلاث فرق:

1- اللاأدرية: الذين يقولون: لسنا ندري ولسنا ندري أننا لا ندري!.

2- العنادية: الذين يقولون لا توجد أي قضيّة بديهية أو نظرية إلا ويوجد لها ما يعارضها، وتوجد معاندة بين القضايا، مثلاً قضية «العالم حادث» وبراهينها تتعارض مع قضية «العالم قديم» وبراهينها، وبما أنه يوجد تعارض وتناقض دائم بين القضايا فلا يمكننا الترجيح بينها، والحكم بشأنها!

3- العندية: الذين يقولون عقيدة كل قوم هي حق بالنسبة إليهم وباطلة بالنسبة إلى خصومهم. [يعني الشيء الواحد يمكن أن يكون حق وباطل في الوقت ذاته! فهؤلاء يقولون بالنسبية المطلقة وإنكار الحقائق الذاتية للأشياء].

إبطال كلام السفسطائية:

ينبغي أن نعلم أن قول السفسطائيين بنفي الحقائق مكابرة للعقل وللحسّ، ويكفي للردّ عليهم أن يُقال لهم: هل قولكم «إنه ليس للأشياء حقيقة» حق أم باطل؟ إن قلتم هو حق فقد أثبتُّم حقيقةً ما ونقضتم قولكم، وإن قلتم هو كلام باطل اعترفتم ببطلان دعواكم أنه ليس للأشياء حقيقة!!

ونقول أيضًا للشكاكين منهم: هل شكُّكُم هذا ثابت وصحيحٌ وحقيقيٌّ أم أنه غير موجود وغير صحيح؟ إن قلتم بل هو موجود وصحيح فقد أثبتُّم حقيقةً من الحقائق، وإن قلتم بل هو غير موجود وغير صحيح فقد أبطلتم شكَّكُم ونفيتموه ومن البديهي أن نفي الشك معناه إثبات الحقائق.

أما قول من قال إن كل قضية هي حق عند من يعتبرها حقًا وهي باطل عند من يعتبرها باطلاً، فجوابه: إن مجرّد الاعتقاد بأن شيئًا ما حقٌّ لا يجعله حقًّا، كما أن مجرد الاعتقاد بأن شيئًا ما باطلٌ لا يجعله في حقيقته باطلاً، بل الحق هو الموجود الثابت في واقع الأمر ونفسه وذاته ولا دخل للاعتقاد في ثبوته أو عدم ثبوته في ذاته، ولا تتغير حقيقة الشيء بسبب الاعتقاد به أو عدم الاعتقاد به، ولو صح كلامكم هذا لكان الشيء الواحد ثابتًا وموجودًا، ومنفيًّا ومعدومًا في الوقت نفسه!! وهذا يؤدي لاجتماع النقيضين وبطلانه من أوضح البديهيات.

طريقة الحِسِّيِّين والتجريبيين وإبطالها:

يرى أصحاب هذا المذهب أنه لا يوجد شيء سوى المادة والأجسام المادية، ويقولون إن الموجودات هي فقط تلك التي تلتقطها الحواس، وليس وراء الحس شيء، ويقولون إن موضوع المعرفة وما يمكن للبشـر أن يصلوا إليه من علم هو الأمور المحسوسة فقط ويعتبرون العلم منحصرًا فقط في حدود المحسوسات التي تقع تحت التجربة ويمكن التحكُّم بها أما ما ليس بمحسوس، فلا يمكن للتفكير العقلي أن يثبت وجوده، وكل علم يستند إلى المعقولات ويدور حولها لا يَعْتَبِرُونه علمًا بل مجرّد وَهمٍ ورَجمٍ بالغيب.

إذن موضوع علم الحِسِّيِّين هو المحسوسات، ويعتبرون أن القوة التي يمكن للإنسان أن يتعرّف بها على الأشياء هي قوة الإحساس والشعور. والحواس في نظرهم ليست شيئًا سوى الأعصاب، وطريقة بحثهم هي طريقة التجربة والحسّ فكل ما أوصلا إليه فهو العلم، لذلك فأصحاب هذا المذهب لا يعتبرون الإلهيات والنبّوات وعلم النفس والأخلاق علمًا لأن مباحثها لا تتعلَّق بالأمور المحسوسة أو التي تقع تحت التجربة والحسّ وخلاصة كلامهم: سلامٌ على الوحي والدين! ......

والدليل على فساد قول الحِسِّيِّين ما يأتي:

1- نحن نعلم بالضرورة أن أفراد البشر مشتركون بحقيقة الإنسانية، وحقيقة الإنسانية هذه إما أن نقول إنها ذات شكل ومقدار وحيّز معين أو نقول ليس لها شكل ومقدار وحيِّزٌ محدَّد.

إن كان لذلك القدر المشترك بين البشر [الإنسانية] شكل وحيز معين للزم من ذلك أن لا يكون مشتركًا لأن كل تشخُّص يخالف التشخُّص الآخر، وإذا لم يكن لتلك الحقيقة المشتركة مقدارًا أو وضعًا وشكلاً مُعَيَّنًا ولا محدَّدًا بأي تحديدٍ خاص، بل يصلح له أي تحديد، فمن المسلم به أنه لن تكون هذه الحقيقة المشتركة عندئذٍ محسوسةً بل ستكون حقيقةً معقولةً، وبالتالي بَطُل قولهم إن كل ما ليس بمحسوس لن يكون معقولاً وليس له وجود. والحقيقة أن البحث والتفتيش في المحسوس ساقنا إلى شيء غير محسوس وهو المفهوم الكلي للإنسان [حقيقة الإنسانية].

2- إن الذي يعترف بالمحسوسات يجب عليه أن يعترف بوجود حقيقة الإحساس والإدراك لأنه لولاها لما وُجدَ المحسوس. وحقيقة الإحساس هذه ليست شيئًا محسوسًا بل معقولاً فالاعتراف بالمحسوس يستلزم الاعتراف بغير المحسوس أيضًا.

3- لا يمكن لأي عاقل أن ينكر تعقُّلَه رغم أن العقل ليس متوهمًا ولا ملموسًا بالحسّ.

4- هناك تعلُّقات للمحسوسات لا تُدرَك بالحس ولا بالتوهم وذلك مثل إدراك الطبائع الكلية مثل العشق والخجل والوجل والغضب والشجاعة والجبن وأمثالها، لأن العقل هو الذي يدرك كلياتها أما نماذجها وجزئياتها مثل عشق الشخص الفلاني أو الغضب منه أو الخوف من فلان، فلا تدرك بالحسّ بل تُدرَك بالوهم، وإذا ثبت أنه توجد في عالم الوجود موجودات خارجة بالذات عن هذه المراتب مثل الذات الربوبية وعالم الغيب فهي أولى أن تكون معقولةً لا محسوسةً.

أما توهم الحسِّيِّين بأن الفكر ليس في الحقيقة سوى وظيفة لعضوٍ من أعضاء البدن هو المخ تمامًا كما أن وظيفة المعدة والأمعاء هضم الطعام ووظيفة الكبد إفراز الصفراء، ووظيفة الغدد تحت اللسانية إفراز اللعاب، وأن التفكير والاستدلال نتيجة عمل آلة الدماغ ونتيجة تفاعل التأثيرات الواردة عليه؛ فهو توهم في غاية الفساد والبطلان والدليل عليه أن عمليات الهضم وإفراز الصفراء واللعاب ليست من نوع الفكر بل هي أعمال مادية محضة مماثلة لأعمال الطبيعة كنمو النبات والتبخّر لكن عمل الفكر هو عمل معنوي يتضمن الإحاطة بالكون المحسوس والمعقول ولا يوجد أي تناسب بينه وبين الأعمال المادية الصرفة كهضم الطعام وأمثالها.

أضف إلى ذلك أن الدماغ ليس هو المدرك على الحقيقة بل هو وسيلة وآلة للإدراك كما أن العين ليست هي بذاتها المدركة أي المبصرة بل هي آلة للبصر والرؤية.

فإن قيل: إن قدرة الإنسان على التفكير تتبدل مع كبر حجم الدماغ أو صغر حجمه كما أن القدرة على الإدراك تتأثر تمامًا بكمال شكل الدماغ (المخ) وتركيبه الكيميائي. قلنا في الجواب: إن هذا الكلام يماثل قولك إن قوة الإبصار لدى الإنسان تقوى وتتأثر بسلامة عضو العين وصحة عمل أجزائها وشكل ومواد تركيبها الكيماوي، وإن السمع يتأثر سلبًا وإيجابًا بصحة وسلامة وكمال أجزاء الأذن ودقة تركيبها أو وجود خلل فيها. لكننا إذا دققنا في الأمر بشكل كامل لرأينا أن حقيقة المبصر ليس هو العين وأن السامع على الحقيقة ليس هو الأذن لأنه يحدث أحيانًا أن تكون العين في قمّة السلامة والصحة ومع ذلك فالإنسان بسبب انشغاله بأمر مهم أو وقوعه في خوف شديد أو ألم مبرح لا يرى ما يوجد أمام عينيه، وكذلك قد تكون الأذن سالمةً صحيحة ولكن الإنسان بسبب انشغاله واستغراقه بأمر مهم، فإنه لا يسمع حتى ولو صُحْتَ به بأعلى صوت.

وقد يُقَال: إنه بسبب تأثُّر المخ بالألم والفزع الشديد ينصـرف الإنسان عن تمييز المبصـرات والمحسوسات، وعدم الإبصار وعدم السمع سببه هذا الانصراف.

لكن هذا الاعتراض في غاية الضعف فإن الإنسان الذي يملك حظ الانتباه من شغل إلى شغل آخر والتوقف عند أمر دون أمر آخر لا يمكننا أن نقول عنه إنه موجودٌ ماديٌ محض، فنحن لو دقَّقنا في الآلات المادية لأدركنا أنها لا تنصـرف عن عمل إلى آخر إلا إذا وجد حائل مادي، مثلاً المرآة التي تعكس صورة شخص دون شخص آخر، لا تتوقّف عن عكسها صورة الشخص إلا إذا حال بين المرآة وبين الشخص حائل أو حجاب ما، إذن لو كان المخ المادي المحض مثل آلة الساعة أو الآلات البخارية فإنه من الجنون أن نقول إنه ينصرف بسبب الألم والفزع لأن التألم والفزع من الأمور المعنوية والوهمية وهي ليست من خواص المادة والحركة.

والخلاصة إن تركيب المخ والمواد الداخلة فيه وخواصه معروفة فكيف يمكن تصور أن ينشأ جوهرٌ حيٌّ لا حدّ لتصوراته ولا نهاية لمدركاته من مواد جامدة غير مدركة. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ»[132].

بعد ذلك وبعد أن يردّ سنكلجي أيضًا على الصوفية الذين يثبتون الحقائق عن طريق الكشف والشهود ويضعِّفون حجية العقل والبراهين العقلية، ويفنِّد حججهم، يعرض منهج القرآن في إثبات الحقائق، ويبيِّن أنه منهجٌ يقوم على التفكير والاستدلال والبرهان. وبعد أن يبين موانع التعقل والتفكر، يبدأ بذكر أدلة القرآن المتينة القاطعة على أسس الدين وأصوله وأولها إثبات الخالق تبارك وتعالى، فيقول تحت عنوان: «أدلة القرآن على إثبات خالق العالم»:

« يظهر من استقراء الكتاب المجيد إثباته لصانع العالم بأربعة طرق:

1- دليل العناية. 2- دليل الاختلاف. 3- دليل الاختراع. 4- دليل الفطرة.

وفيما يلي بيان هذه الطرق الأربعة:

1- دليل العناية

يعتمد هذا الدليل والبرهان على ملاحظة العناية بالإنسان والاهتمام بخيره وما ينفعه، وأن جميع الموجودات خُلقت لأجله، ومبنى هذا الدليل أمران:

الأمر الأول: أن كل موجودات العالم موافقة لوجود الإنسان ومنسجمة معه، والأمر الثاني: أن هذه الموافقة لا يمكن إلا أن تكون من فعل فاعل قاصد مريد، فلا يمكن أن تحصل هذه الموافقة والانسجام الكامل بالصدفة.

أما الأصل الأول، فإن الليل والنهار والشمس والقمر والفصول الأربعة والكرة الأرضية كلها منسجمة مع وجود الإنسان وملائمة له، كما أن معظم الحيوانات والنباتات والجمادات وأغلب الجزئيات الأخرى كالمطر والأنهار والبحار والماء والهواء والنار، كلها مناسبة تمامًا للإنسان وملائمة له. كذلك إذا تأملنا بدّقة في أعضاء جسم الإنسان والحيوان رأينا أنها جميعًا تتفق مع حياة الإنسان ووجوده، وهذا الأمر واضح كل الوضوح، وكلُّ من أراد أن يعرف الله أكثر وأن يقوى لديه أساس التوحيد ويصل إلى كماله، ما عليه إلا أن يفحص ويبحث في المنافع التي لا حصر لها لأعضاء جسم الإنسان.

ومن هذا الأصل يثبت الأصل الثاني وتتم البرهنة عليه: لأنه من المستحيل أن تجتمع كل هذه الموجودات لأجل منفعة وجود الإنسان دون أن يكون وراء ذلك إرادة فاعل، بل بمجرّد الصدفة. مثلاً إذا رأى شخصٌ صخرةً منحوتةً على شكل كرسيٍّ وموضوعةً لأجل الجلوس عليها، فإنه يحكم أن هذا قد تمَّ بإرادة فاعل، إذا لا يمكن أن يكون نحتها ووضعها على ذلك النحو قد تم بالصدفة المحضة، أما إذا رأى صخرةً عاديةً ليست منحوتةً ولا موضوعةً على نحوٍ يناسب الجلوس عليها، فيمكنه أن يقول إن تلك الهيئة حصلت دون قصد قاصد. كذلك إذا نظر الإنسان إلى العالم ورأى الشمس والقمر والنجوم وفهم كيف تنشأ عنها الفصول الأربعة والليل والنهار وكيف أنها تسبب نزول الأمطار وحركة الرياح وإذا تأمَّل في أطراف الأرض والحيوان والنبات وتأمَّل في الانسجام والتوافق بين الماء وبين الأسماك والحيوانات البحرية والنهرية، والانسجام والتوافق بين الهواء والطيور، فإنه يُقِرُّ ويعترف مباشرةً بوجود صانع للعالم ووجود ربٍّ حيٍّ مريدٍ، ويدرك عناية هذا الربّ بإيجاد هذا التوافق والانسجام والتناسب بين أجزاء عالم الموجودات والإنسان وأن ذلك يستحيل أن يكون وليد الصدفة المحضة بل لا يكون إلا بقصد قاصدٍ وإرادة مريد ....»[133].

ويأتي سنكلجي هنا بعدد من آيات القرآن الدالة على هذا الأمر ويتابع على هذا النحو البرهاني الفذّ بيان دليل الاختلاف ودليل الاختراع ويأتي على كل منها بآيات من القرآن حتى يصل إلى دليل الفطرة فيقول:

«دليل الفطرة لإثبات خالق العالم: يقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَا... [الروم:30]. ويقول حضرة الرسول الأكرم ص: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»[134].

والدليل على ذلك أن الناس يتَّجهون بطبعهم وغريزتهم ودون إرادةٍ منهم إلى الله تعالى خالق العالم، ويلجؤون إليه ويستغيثون به وحده في الشدائد والبلايا والمُلِمَّات ولا يعتبرون - في أعمق وجدانهم - أحدًا مسبِّبًا للأسباب ومسهلاً للأمور الصعاب، سوى ذاته الأحدية المقدّسة، ويعتبرون أن حلّ المشكلات وقضاء الحاجات وإزالة الكُرَب بيد الله تعالى وفي قدرته، و يعتبرون النجاح والفوز موكولاً إلى إرادة الله ولطفه، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠ بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ ٤١ [الأنعام:40-41].

"سَأَلَ رَجُلٌ الإمام الصادق أن يدله على الله وعبادته، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ الله! هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: الصَّادِقُ: فَذَلِكَ الشَّيْ‏ءُ هُوَ اللهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيَ وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيث»"‏[135].

يتبـيَّن مما ذُكر أن أجلى الموجودات وأظهرها ذات الباري أ، فلا بد إذن أن تكون معرفته أول المعارف البشرية، ومبدأ معلومات الإنسان، ولا بد أن يكون فهمها أسهل المفاهيم لعقول وأذهان البشر، ولكننا نرى أن الأمر على العكس من ذلك، فلا بد أن لذلك سببًا يجب أن نكتشفه.

أما قولنا إن الله تعالى أجلى الموجودات وأظهرها فهذا يمكن إثباته بالمثال الصغير التالي: عندما نرى شخصًا يكتب كتابًا أو يخيطُ لباسًا فإن أظهر وأجلى ما يظهر لنا من صفات هذا الشخص هو الحياة والعلم والقدرة، أما صفاته الباطنية مثل غضبه وشهوته وخُلُقه، ومَرَضِهِ وصحّته فلا تكون معلومة لنا، كما أننا لا نميِّزُ جميع صفاته الظاهرية في المرحلة الأولى، ونشك في بعض صفاته الظاهرية الأخرى، ولكن الصفات التي هي أظهر من جميع الصفات الأخرى، والتي يتوجه إليها ذهننا منذ الوهلة الأولى، أعني صفة وجود الحياة والعلم والقدرة، لا يشك ذهننا فيها أبدًا، علمًا أن الصفات ليست مثل بعض الصفات الظاهرة للعيان، كلون البشرة والطول والعرض التي تدركها حواسنا الخمس فورًا، لكنها صفات ندركها مباشرةً بمجرد ملاحظتنا لحركة يد الكاتب في كتابته أو في خياطته فندرك إرادته وعلمه وحياته.

كذلك إذا ألقينا نظرة على العالم وعلى ما سوى الله وشاهدنا ما تدركه حواسنا الخمس فيه من برٍّ وبحرٍ وجبل وصحراءٍ ونباتٍ وجمادٍ وحيوانٍ وكواكب سماويةٍ ونجومٍ ثابتةٍ وسيّارةٍ وقمرٍ وشمسٍ، وتأملناها بدقة، ولاحظنا هذه الحركة الدائمة وهذه الموجودات والمصنوعات المختلفة وهذه التطورات المتنوعة والتحولات العديدة التي نجدها في أنفسنا وفي بني نوعنا وفي جميع ذرات العالم، أدركنا وجود صانعٍ للعالم ذي حياةٍ وعلم وقدرة، وأقررنا واعترفنا به، بل قبل أن ندرس ونتأمل العالم يمكننا أن تأمل أنفسنا ونتأمَّل الحركات والأطوار الناشئة عنها؛ فبمشاهدة أعضاء بدننا ورأسنا وأيدينا وأرجلنا ورقبتنا ودماغنا وقلبنا ندرك ونفهم أنها مصنوعة من قَبِل صانع قدير عالم حيٍّ، ولما كان العلم بالأنفس من أسبق العلوم كانت نتيجة هذه المشاهدة والعلم - أي الإقرار بوجود صانع حيِّ مدركٍ - أظهر وأسبق وأجلى من جميع المعارف.

وإذا كانت يد الكاتب والخياط تدل على علمه وحياته وقدرته فكيف لا تدل كل هذه الموجودات من بشر وحيوان ونبات وجماد واختلاف للأنواع والأنفس وتركيب الأعضاء واللحم والجلد والعظم والأعصاب، والخلاصة كل الذرات فردًا فردًا، على وجوده تعالى وكيف لا تكون شاهدًا ناطقًا بأعلى صوته على قدراته وحياته وعلمه؟! لقد أذهلت مشاهدة هذا المعنى العقول وأعجزت الأفكار في وادي الحيرة، فأيُّ عينٍ لم تذهلها مشاهدة العظمة وأي عقل لم يبهت ويتحير من مطالعة الجمال والجلال اللامتناهيين»[136].

نكتفي بهذا المقدار من بيان نموذج لجهود سنكلجي في الرد على أسس الإلحاد والمادية، في ومن المفيد جدًّا قراءة ما كتبه في الكتاب ذاته حول إثبات النبوة و إثبات المعاد، وسائر عقائد الدين وتفنيد جميع شبهات المشككين والملحدين.

[126] عزلت قوات الحلفاء [بقيادة إنجلترا] بعد بداية الحرب العالمية الثانية الملك رضاشاه سنة 1320 هـ.ش/1941م ونفوه إلى خارج إيران وجاؤوا بابنه الشاب محمد رضا وأجلسوه على عرش إيران. [127] رسول جعفريان، جريانها وسازمان‌هاي مذهبي-سياسي إيران [التيارات والمنظمات الدينية-السياسية في إيران]، الفصل الأول، ص 24 - 25. باختصار وتلخيص. [128] المصدر نفسه، ص 27، المتن والحاشية. [129] مذهب المثالية الفلسفي له أشكال متعددة، والمقصود منه هنا ذلك المذهب الفلسفي الذي لا يعترف بوجود الحقائق الخارجية ويعتبر أن الموجودات المادية لا وجود لها في الواقع بل في تمثلاتنا الذهنية عنها، ويرى أن كل ما نعرفه عن العالم من مفاهيم وحدوس، هو إنتاج محض للفكر وتمثلات ذهنية وليست الأشياء بذاتها وكما هي فعلاً، لأن معرفة الأشياء بذاتها وكما هي فعلاً أمر غير ممكن. [130] المذهب التجريبي الحِسِّي مذهب فلسفي إلحادي يحصر الحقائق الثابتة فيما يقع تحت إدراك الحواس ويمكن تجربته في المخبر فقط. ويرى أن كل ما عدا ذلك غير ثابت ولا وجود له بل هو وهم وخرافة. [131] ديفيد هيوم: فيلسوف انجليزي ملحد ولد في «ادنبره» عام 1711م. نشـر كتابه «الطبيعة البشرية» عام 1740 ثم لخص بعد بضع سنوات أفكاره الفلسفية في كتاب مبسوط ووجيز هو «أبحاث العقل البشري»، توفي في ادنبره عام 1776م. (تر) [132] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن، ص 127 إلى 140. باختصار وتلخيص. [133] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن، ص 183 إلى 184. باختصار وتلخيص. [134] محمد بن علي بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 49؛ وله أيضًا في: علل الشرائع، ج 2، ص 376. وهو حديث متفق عليه في مصادر أهل السنة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. [135] محمد بن علي بن بابويه القمي، التوحيد، تحقيق هاشم الحسيني، قم، جماعة المدرسين، ط1، 1398 هـ.ق، ص 231. [136] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين القرآن، ص 193 - 195. باختصار وتلخيص.