5- «شريعت» يعتبر التقليد وطاعة السادة الكُبَراء أهم موانع التعقُّل وأهم أسباب الضلال
التقليد الأعمى من أهم العوائق التي تحول بين الإنسان وبين العلم والتعقُّل والهداية.
هذا ما يشرحه «شريعت» بالتفصيل في كتابه «كليد فهم قرآن» (مفتاح فهم القرآن)، حيث يعقد فصلاً خاصًّا بعنوان: «التقليد أول مانع من موانع التعقُّل» يبدؤه بالاستشهاد بالآيتين التاليتين اللتين تذمان تقليد الآباء والأجداد:
- قال تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ ٢٣﴾ [زخرف: 23]
- وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَآ أَلۡفَيۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ شَيۡٔٗا وَلَايَهۡتَدُونَ ١٧٠﴾ [البقرة:170].
ثم يشرع بتحليل آفة التقليد مبيِّنًا منشأها والعوامل التي تساعد عليها وأضرارها. ثم يقول تحت فقرة بعنوان «معالجة القرآن لمرض التقليد»:
«العلاج الحاسم للتقليد هو العلم والمعرفة، لأن الشخص الجاهل وغير المتعلم يقتصر دائمًا على سماع الأساطير والقصص والخرافات من الشيوخ وكبار السن، الذين يقومون بنقل ما سمعوه من آبائهم إلى الأبناء؛ فالأمية والجهل رفيقان للتقليد ومؤيدان للخرافات، وعلى العكس من ذلك فإن العلم والمعرفة عدوَّان للتقاليد وغذاءان للروح والبصيرة، فكما أن الجسم ينمو بالأغذية المادية ويقوى بها، كذلك الروح تَقْوَى بالنظريات العلمية، والعقل يقوى بالمعلومات ويصل إلى كماله اللائق به، فالشخص العالم يُكَسِّـر بفضل علمه قيود الخرافات وأغلالها ويرمي عن كاهله حمل التقاليد فلا تحركه كل ريح، ولا يتْبَعُ كلَّ ناعق.
ومن هنا حرَّم مستعبدو البشر من الكهنة وأرباب الكنيسة العلمَ على الناس وحكموا بنجاسته، كما يقول «لاروس» في دائرة المعارف إن رجال الكنيسة كانوا يقولون إن الشجرة الملعونة التي حرَّم الله ثمرتها على بني آدم هي العلم!»[95]
بعد ذلك يبين «شريعت»: «أن القرآن الكريم الذي نزل على الرسول الأكرم ص لأجل شفاء الأمراض الأخلاقية والاجتماعية دعا الخلائق إلى العلم وأنزل آيات عديدة في فضله كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْ﴾ [فاطر:28]، وقوله سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق:1-5]، وقوله عز من قائل: ﴿وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [البقرة:269]، وقوله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الزمر:9]. وقوله أيضًا: ﴿هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ﴾ [الأنعام:50]. فكما أنه لا يوجد أي تناسب بين الخبيث و الطيب و بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور وبين الظل والحرور فكذلك لا توجد أي نسبة بين العالم والجاهل. وقال سبحانه: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ﴾ [المجادلة:11]»[96].
وتحت فقرة تالية بعنوان: «الأخبار الواردة في فضيلة العـلم»، يذكر «شريعت» عددًا من الأحاديث النبوية في فضل العلم. ومن الملفت للنظر أن كل الأحاديث التي يوردها مروية عن الرسول الأكرم ص ومنسوبة إليه فقط، ولم يذكر شيئًا من الروايات عن الصادق أو الباقر أو غيرهما من الأئمة عليهم السلام ، خلافًا لعادة علماء الشيعة من خلْطهم بين أحاديث الأئمة من آل الرسول بأحاديث رسول الله ص كما هو معروف. وأعتقد أن هذا الأمر ليس صدفة بل له دلالاته. والله أعلم.
وأخيرًا يختم «شريعت» هذه الفقرة بقوله:
«ينذر القرآن الذين يتكاسلون عن طلب العلم ويعرضون عن تحصيله بسوء المنقلب والطبع على قلوبهم وأن ذلك عاقبته سوء العذاب فيقول: ﴿وَلَئِن جِئۡتَهُم بَِٔايَةٖ لَّيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ ٥٨ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٥٩﴾ [الروم:58-59]. بمثل هذه الآيات فتح الله أبواب العلم الحقيقي أمام عقول البشر و جعل العلم أعظم ما يمكن أن يُعْبَدَ به خالق العالم، وقد ورد عن النبيّ الأكرم ص قوله: «أفضل العبادة طلب العلم»[97]....»[98].
وفي الفقرة التالية التي عنوانها: «من موانع التفكير: طاعة السادة والكبراء واتباع الأحبار والرهبان» يشرح «شريعت» هذا المانع الثاني من موانع التعقُّل مبتدئًا بالاستشهاد بآيتين هما قوله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة:31]، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧﴾ [الأحزاب: 67]، ويقول بعد ذلك:
«إن أسوأ وسيلة استخدمها من سعوا إلى إذلال البشـر ليتمكنوا من السيطرة والسيادة عليهم ومن راموا حرمان البشر من حقوقهم الطبيعية وسلبهم خصائصهم الفطرية وكمالاتهم الإنسانية ليجعلوا هذه الحقوق والخصائص تحت تصـرفهم يوجهونها حيثما شاؤوا ويشكلونها كيفما أرادوا بما يوافق هواهم وكبرياءهم، هي وسيلة: «اعتقد وأنت أعمى» أي حمل الناس على الاعتقاد الأعمى والاتباع دون تفكير، بحيث أنه بمجرد أن تنقدح في ذهن الناس بارقة التفكير، وكلمة لماذا؟ والسؤال عن سبب هذا الشيء أو لماذا ينبغي أن تكون هذه المسألة على هذا النحو أو ذاك النحو؟ يُرموا بالكفر والخروج عن الدين ويصبحون طعمة للنيران! لقد كان أولئك العابدين لأهوائهم، والجبابرة والمفسدين في الأرض ومهلكي الحرث والنسل رجال الدين من الكهنة والأحبار والرهبان.
لقد ادعى أولئك الذئاب المضلين للبشر لأنفسهم حق الولاية والقوامة على نوع البشر حتى أنهم كانوا يأخذون أطفال الناس ويربونهم على أوهامهم وآرائهم ويزرعون في أذهانهم أن السعادة والشقاء الأبديين موكولان إلى إرادتهم ومرتبطان بمشيئتهم حتى ادَّعَوْا أنهم شفعاء الخلق عند الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71].
هكذا حقنوا أذهان الناس وربوهم على فكرة أن ليس لديكم روح ولا وجدان مستقل إلا أن تطيعوا أحباركم طاعة عمياء وأن تتعلموا الدين منا تعبُّدًا بلا دليل. وقد نفذت هذه السنة السيئة في أعماق نفوس العامة حتى أصبحوا يقلِّدون كبارهم وأحبارهم تقليدًا أعمى ويطيعونهم في كلِّ شيء دون أن يكون لهم من أنفسهم أي رأي أو تفكير. فتقولب الناس وتشكَّلوا طبقًا للقالب الذي صبَّهم فيه قطّاع طريق الإنسانية أولئك، وانغمس الناس في عبادة الكهنة والدجالين حتى أنه كلَّما ناداهم وجدانهم ودعاهم إلى البحث في أمر من الأمور والتحقيق في عقيدة من العقائد، هتف بهم هاتف التقليد يقول: أيها المتفكر! لا حق لك في التفكير لأنك لا تملك القدرة على التمييز بين الحق والباطل فليس أمامك سوى الطاعة بلا دليل.
ولهذا فإن حرية النفس وما يبتني عليها إنما تنشأ من حرية المدارك التي تربِّي الملكات الفاضلة. ونحن نرى اليوم أن علماء السوء لا زالوا يمارسون تلك الدعوة القديمة على نحو شديد ويقولون للناس إن الدين تعبُّدٌ محضٌ ولابدَّ فيه من التقليد الأعمى! ومن ذلك زرع جهلة المتصوفة في نفوس مريديهم أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه «كالميت بين يدي الغسال»، وأن «مقام المريد عدم الإرادة» وأن المريد إذا لم يفقد الإرادة ولم يستحضر المرشد في الذكر والعبادة ويطيع شيخه طاعة عمياء لن يصل إلى الكمال.
لقد سلبت هذه التعاليم القبيحة من الإنسان حرية نفسه وأخضعت البشر لكل دجال، ومنعت العقل من التفكير والبحث عن الحقائق والتحقيق فيها»[99].
ويخلص في نهاية هذا المبحث إلى القول:
«ولا ريب أن المضلِّين إنما يدينون في رئاستهم وسيادتهم ومنافعهم إلى جهل المجتمع وعدم رشد الناس، لذا فهم يحرصون على إبقاء الناس في الأوهام المختلفة ومنعهم عن التعقُّل والتفكير، كي يستطيعوا الوصول بسهولة إلى أهدافهم البشعة ويحققوا مآربهم الخبيثة، لذا يصرّحون بأن لا حقّ للعقل في تأمّل ما يقوله هؤلاء السادة والكبراء، وإذا قام أحد الناس بالتعقُّل والتفكُّر رموه بالإلحاد والخروج عن الدين، وقالوا الدين هو التعبُّد المحض ولا مجال فيه للتعقُّل»[100].
ولا يخفى أنه بهذا ينسف فكرة التقليد والمرجعية التي يروجها جمهور العلماء التقليديين الشيعة والتي تقول: إن الإنسان إما أن يكون مجتهدًا فلا يُقلِّد، أو عاميًّا فتكليفه هو التقليد المحض للمراجع المجتهدين لا غير، وهي الفكرة التي تقف دائمًا حجة عثرة أمام اهتداء العوام إلى الحق في كثير من المسائل وتسبِّب بقاءهم في ضلالاتهم. مع أن الإمام الهمام عليًّا ÷ يقول: «النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ...»[101]. فلم يقل: الناس إما عالم أو مقلِّد! بل قال: إما عالم أو متعلم وإلا فهم همج رعاع.
[95] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن بانضمام براهين قرآن، [مفتاح فهم القرآن مع براهين القرآن]، طهران، مؤسسة انتشارات دانش، الطبعة الخامسة، ص 162 - 165. [96] انظر المصدر نفسه، ص 166 - 168. [97] رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة، انظر كنز العمال، ح (28821). ولم أجده بهذا اللفظ في أي مصدر شيعي للحديث، والوارد في كتاب «بحار الأنوار» للمجلسي: «وَطَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾». [98] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [مفتاح فهم القرآن]، ص 170 - 171. [99] المصدر نفسه، ص 174 - 175. [100] شريعت سنكلجي، كليد فهم قرآن [مفتاح فهم القرآن]، ص 179 - 180. [101] نهج البلاغة، بتحقيق الشيخ صبحي الصالح، ص 496؛ إبراهيم بن محمد الثقفي (ت 283هـ.ق)، الغارات، ج 1، ص 89. وفي مصادر أهل السنة: الحافظ ابن عساكر الدمشقي من عدَّة طرق، تاريخ مدينة دمشق، ج 50، ص 252 - 255؛ والحافظ أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج 1، ص 79 - 80؛ وعبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي، صفوة الصفوة، ج1 ، ص 127.